يقولون: إنّ الحياةَ مسرحيةٌ كبيرة، ولكلّ واحد منّا دورُه الخاص فيها، فبعضُنا يقوم بأداء دوره بصدق وعفويّة وواقعيّة وارتجال، وآخر لا يعجبه دورُه في الحياة فيرتدي قناعاً ليقنعَ من حولَه بشخصية أرادَ أنْ يكونها لغاية في نفسه. وعلى ما يبدو فإنّ معظمَ الناس أصبحوا يفضِّلون ارتداء الأقنعة لأنها تريحهم وتجعلهم يفعلون ما يريدون بحريّةٍ ودونَ مساءلة من أي نوع!!
كانت الأقنعةُ معروفة منذ القديم،ارتداها الفراعنة في مراسم طقوسهم الدينيّة وكان من أجلّها وأقدسها قناعُ الإله أنوبيس ( رأس ابن آوى ) الذي يرتديه من يعالجُ الجثّةَ بالتحنيط كي تحظى بالبعث والخلود! أمّا في العصور الوسطى فقد كانت تقامُ حفلاتٌ خاصّة في فرنسا يحضرها عليةُ القوم دونَ أنْ يعرفَهم أحد فهم مقنّعون مما يجعلهم يتصرفون على هواهم وبحريّة إذ أنّ مناصبَهم الرفيعة تعيقُ حركتَهم في المجتمع.
ثم أصبح ارتداءُ القناع من أجل المرح واللهو فظهرَ مفهومُ الحفلات التنكريّة. ويقول الطبّ النفسيّ إن حضورَ مثل هذه الحفلات كان يريحُ الشخصيّةَ المتلعثمة ولاسيما تلك التي تعاني رُهابَ الإفصاح عن الذات ومواجهة المجتمع!
ومن فرنسا أيضاً خرجتْ قصةُ الرجل ذي القناع الحديدي الذي عاش في عصر الملك لويس الرابع عشر متخفّياً تحت قناعه في سجن الباستيل لمدّة ربع قرن، عُومِل خلالها باحترام شديد ثم دُفن تحت اسم مستعار ( مارشيولي ) وبقي لغزاً لم يحسمْه التاريخ فهو أكثر سجناء التاريخ غموضاً، أمّا القصةُ التي تقول أن المقنعَ هو فيليب توءمُ الملك لويس الرابع عشر فهي مجرّدُ فكرة أدبيّة فرنسيّة لا أساس لها من الصحّة ولم تلقَ استحسانَ المؤرّخين !!
أمّا في عصرنا فقد راجَ نوعٌ من الأقنعة جديد عجيب إنّه قناعٌ يمتزجُ بلحم الوجه ودمه تحت اسم عمليات التجميل التي يتعرض لها أناسٌ يريدون مسحَ بصمات الزمن عن وجوههم فإذا بهم يغيّرون تضاريسَ الوجه بالكامل! فتبدو ابنة الثمانين بمظهر ابنة العشرين! والمثير للاشمئزاز أنّ هذا الوجه الجديد ( المجمّل ) يلزمُ صاحبتَه بمظهر جديد وتصرّف جديد ودلال يصيبُ بالغثيان كيف لا وقد أصبحت الجدةُ تقوم بدور الحفيدة!!
ومع ذلك فإنّ أقنعةَ الوجوه ليست أسوأ أنواع الأقنعة، إذ أنّ أخطرَها أقنعة القلوب..ألم تضع امرأةُ العزيز قناع العفّة أمامَ زوجها عندما رمت الصدّيق يوسف عليه السلام بدائها واتهمته بمحاولة اقتراف السوء قائلة: ( ما جزاء من أرادَ بأهلك سوءاً )..؟ ألم يرتدِ أولادُ يعقوب أجداد اليهود أقنعةَ الأخوّة عندما قالوا لأبيهم: ( أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنّا له لحافظون ) وهم يريدون قتله؟! ألم يلبس المنافقون في المدينة قناعَ الإيمان وقلوبُهم مريضةٌ قد رانَ عليها صدأ الخديعة والمكر والكفر!!
أمّا في هذا العصر الذي أعيشُه فإنّ من أشهر أنواع الأقنعة قناعُ العاشق المتيّم الواله! الذي يدّعي الحبّ ويقوم بدور مجنون ليلى .. فترى هذا الدّعيّ يلملمُ مفردات العشق والشوق من بطون كتب الغرام والهيام وينسبها لنفسه! ثم يلقيها في طريق من يدّعي حبّها فتفقد المسكينةُ توازنَها وتغرقُ في مستنقعات الوهم والخديعة فالبريقُ المزيّف لكلماته الكاذبة أعماها وأرْدَاها وهي التي أمضتْ جلّ عمرها تبحثُ عن طيف معجب!! ومسكينٌ هذا العاشق المزيّف لأنه لم يذقْ طعمَ الحبّ الحقيقي وهو من أرقى أنواع المشاعر الإنسانيّة وأرفعها وأطهرها على الإطلاق .. فالحبّ برقٌ سماويّ يطهّر القلبَ سنا نوره ويحيله إلى أرض مقدّسة تخرجُ منها ثمار الجنة دانية قطوفها !!
وإذا كانت أقنعة القلوب تحوّلنا إلى مسوخ ماديّة لا مشاعر لها فإنّ أقنعةَ العقول تحوّلنا إلى مسوخ جاهلة لا تدركُ كنْهَ الحقيقة ولا جلالها ولا جمالها وهذا حالُ مقنّع العقل الذي تبنّى فكرة لم يقتنع بها يوماً وأراد الدفاعَ عنها لمصلحة ما، فانبرى يجمعُ من هنا وهناك ما يخيّل إليه أنها أدلة وبراهين ليثبتَ مذهباً في الحياة لا يؤمن به، أو يؤمنُ به بسبب عصبيّة وهوى وأفق أضيق من جحر ضب!!
فهناك أقنعة جاهزة للعقول يورثها بعضُ الخلف للسلف فيرتدونها دون أدنى تفكير!! فترى هذا المقنّع يحرّف الكلمات -والكلمة أمانة- ويلوي أعناقَ النصوص ويزوّرها فيضيف لها ويحذف منها وهذه خيانة فترى آراءه تخرج باردة سمجة إذ لا منطق ولا حق! ضالّة مضلّة تستخفُ بالعقول الراقية والقيم السامية. ويبقى مقياسُ الإنسان الحق الذي كرّمه الله تعالى بالعقل هو قدرته على امتلاك قلوب الآخرين فتراهُ يحبّهم ويسامحهم ويعطف عليهم ويحمل همّهم ويرشدهم نحو الخير والحق والجمال عندها فقط تسقط كلّ أنواع الأقنعة!!