عندما انتقلت عنا أمي الحبيبة بالجسد، شعرتُ أنَّ روحَها سكنتني، وأنها لم تفارق بيتَنا أبداً فهي باقية فيه رغم الانتقال المكاني، فالجسد -حسب إيمان كنيستي- يقوم في اليوم الأخير، ونحن نعمل في هذه الفانية لنكونَ أناساً قياميين في الباقية، ونسكنَ في المجد الإلهي عن يمين عرش الله.
ومع أنَّ هذا الإيمان يعزّي كثيراً، لكنَّ انتقالها يسبب حزناً وألماً كبيرين عند الأبناء، فمهما كبر الأبوان لا يحبُّ الابن أن يراهما هَرمَيْن أو ميتين لأنهما سنده. وأمي كانت سندي وكنفي الذي أعيش فيه براحة، فهي أمٌّ حقيقية لا غشَّ فيها، معطاءة ومحبة وحنونة، وأنا كنتُ أفتخر بها كثيراً، فعندما كنت أمشي أو أذهب معها إلى أي مكانٍ كنتُ أستعرض أمي كمَن يستعرض جوهرة ثمينة أو شيئاً غالياً يريد أن يره للناس، فأمي كانت جوهرة؛ لا لأنها كانت متعلّمة ومعلّمة في زمانها، ولا لأنها مرتبة وجميلة وبسيطة، بل لأنها طيبة جداً وحنونة جداً جداً، وهذا كان يريح كلَّ من يكلّمها، لهذا كنتُ أستعرضها وأفاخرُ بها، فأمي كانت تشرّفني.
وحين انتقلتْ عنا بقيتْ ذكرياتها القديمة في ذاكرتي، وذِكرُها الجميل في خلايا رأسي، وشعرتُ أنها انتقلت مكانياً فقط، وأنها باقية في كلِّ حركة وتصرّف. وأنا لم أبقِها في ذاكرتي فحسب بل وضعتها في حديثي وتصرّفاتي، ففي كلِّ محطةٍ من الكلام كنت أقول: "أمي تفعل هذا، وأمي تعمل ذلك، وأمي تتصرف هكذا.." وكنتُ أتكلّمُ عنها كما لو أنها موجودة ولم تغاردنا، لذلك بقي كلُّ شيءٍ من أثرها كما كان حين وجودها.. ثيابها، حقائبها، أدواتها، أغراضها.. لم أرمِ منهم شيئاً أبداً بل بقي كلُّ شيء على ما هو عليه في انتظار عودتها. فربما غابَ عني جسدها فقط لكنّها ما تزال على قيد الحياة قائمة كما قام المسيح.
ودونَ أن أنتبه شعرتُ أنني ورثتها، وكيف يرث الابن أهله؟ أو كيف ترث البنتُ أمها؟ فربما اعتقد البعض أنني ورثت مصاغها أو نقودها وأشياءَها، لكنني في الحقيقة ورثتُها هي، ورثتُ عاداتها رغم أنني غير قادرة أن أرثَ طيبتها وحنانها... صرتُ أحبُّ تفاصيلَ حياتها، وأفكّر كيف كانت تحضّر الطعام، وترتب البيت، وتزور الأقارب والجيران -على قلة هذه الزيارات- ومع أنَّ أمي لم تكن تشرب القهوة الصباحية اليومية عند نساء الحارة، ولم تكن تخرج من بيتها للزيارة كلَّ يوم، لكنها كانت اجتماعية تحبُّ الناس جميعاً، وتطيل السلام عليهم والسؤال عنهم.
كانت بيتُها همَّها فعندما تذهب إلى زيارةٍ ما تودّ أن تعودَ مسرعة لأنَّ ضميرها يؤنّبها إذا تركت البيت، أو تركت شيئاً مهماً خلف ظهرها، فالبيتُ وأبناؤها وأحفادها هم حياتُها وتفاصيلها، ورغم أنَّ طبعي كان مختلفاً عن طبعها لكنني أشعر الآن برغبةٍ كبيرةٍ في تقليدها. أشعر مثلاً برغبةٍ في دخول المطبخ ومعرفة أسراره، فالطبخُ هواية ونفَس كما يقال، وأمي كان لها نفسها المميز في الطبخ، وكل طبخة مهما فُصِّلت لي طريقة تحضيرها يبقى لها سرٌّ خاص، وهذا السر قد ذهبَ عندما غادرتني أمي.. لقد أعطتني مفاتيحَ لبعض الأسرار لكنها لم تبطئ لتعطيني باقي أسرارها بل رحلت سريعاً.
وأنا الآن -مع إرثي- أحاول أن أكتشفَ ألغازَ المطبخ كافة وفنَّ تحضير المؤونة والطعام، وزيارة الأهل والأقارب والجيران الذين كانت تزورهم أمي لدعوتهم إلى بيتنا، ومع أنَّ عمري مختلفٌ عن أعمارهم لكنني أتعامل معهم وكأنني أمي، أحدثهم وكأنَّ أمي تتحدث، لأنَّ كلَّ شيءٍ باقٍ على حاله بعد غيابها، حتى غدا بيتي يجمع أقاربي وأقاربَها ورفاقي ورفاقها، أنَّ فالبنتُ سرُّ أمها (رغم أنَّ الصبي له خصوصية عند الأم لأنه قوتها). وعندما أحاول أن أحضِّر المؤونة أو الطعام أشعر أنَّ روحها مرتاحة وأنها تبتسم ابتسامة رضى عني وتقول: أنتِ امتدادٌ لي..
أنا الآن أرتدي من لباسها وأحمل حقيبتَها، وألبس حذاءَها، وأحاول أن أعملَ ما كانت تعمله، فقد أحببتُ هذا الإرث العظيمَ جداً.
عندما أتذكّر طريقة عيشنا البسيطة وكيف ربّتنا بدموع عينيها أقول في نفسي: ليتنا نعود صغاراً لأنَّ الصغار لا يشعرون بالمسؤولية، كنت أحب أن أرجعَ صغيرة لأعودَ إلى حضن أمي، لكن هيهات أن يتحقق ذلك فلكل مرحلة ميزاتها وخصائصها، حلوها ومرّها، ونحن نلنا نصيبنا منها.
كنتُ أتذكّر كيف كانت أمي تعمل في البيت وتستطيع أن تحيط بالأشياء كلِّها داخل البيت وخارجه دون أن تشكو أو تتذمر، وقد قدّرتُ الآن أن أعباء البيت كثيرة، وأنَّ الأم المضحية تعطي دون مقابل بل تعطي دون أن تراعي نفسها أو تحسب حسابها لأنها لا تعرف الأنانية، حقاً إنَّ الأم تستحقّ أن تُقبَّل يداها الطاهرتان لأنَّ حنانها يفوق الوصفَ والتوقع، كلها رحمة ومحبة وقلبها لا يعرف إلا التسامح.
نعم لقد ورثتُ أمي دون أن أشعر، وأنا الآن واحدٌ معها.
29 / 4 / 2011