أمي هي حياتي ووجودي ورئتي، وأنا بالنسبة لها أكثر من ذلك بكثير، تحبني كثيراً لا بل تحبّنا أنا وأخي كثيراً جداً، وتحب حفيديها أكثر وأكثر لا بل تحلم بهما.. أعتقد أنَّ هناك سراً خفياً يربط الأمَّ بأولادها والأولادَ بأمهم وهو عصيٌّ عن الاكتشاف. فأمي تغلّفني بكثرة محبتها، وتجرح قلبي من فرط حنانها وخوفها عليّ..
لذلك حين غادرتْني ودون أن أشعر، شعرت بعجزٍ كبير في حياتي وقلبي وفكري لا بل شعرتُ بنقصٍ حتى في جسمي وكرياتي الحمراء والبيضاء وخلاياي وأعضائي.. شعرتُ بالعجز أمام أمومتها..
كنت أعرف أن أمي تأخذ حيزاً كبيراً من حياتي، لكن لم أحسب حساب اليوم الذي سأفقدها فيه.. لقد تعلّقت بها كثيراً، لا كطفل يحبّ أن ينام في حضن أمه، كما كنتُ أفعل في صغري، بل كانت هي حياتي التي أعيش من أجلها.. فأسعى إلى شراء كل ما يسعدها وفعل كلّ ما من شأنه أن يفرح قلبها، لكن أمي لم تكن تفرح بهذا بمقدار فرحها بسعادتنا وهناءتنا، كانت تقول لي: "عندما تكونان مرتاحين أنتِ وأخوك سأكون مرتاحة وسعيدة، وعندما تسافران وتبتهجان سأكون مبتهجة"..
كانت تفضّلنا على نفسها وتسعى جاهدةً لتحقيق ذلك، لذلك عندما غادرتني أمي شعرتُ بنقصٍ كبير في حياتي، وأدركتُ أن حياتي كانت من أجلها وأنني مازلتُ مرتبطة بذلك الخيط المشيمي الذي يربط الجنين برحم أمه.. لقد بقيتُ في رحم أمي طوال عمري دون أن أعرف ذلك، بقيت أدور في فلكها وأركض في مضمارها دون أن ينتابني شعور بارتباطي الكبير بقلبها.
عندما عرفتُ أنها ستغادرني لأنَّ المرض اشتدَّ عليها وانتشر في جسدها الواهن الضعيف، حزنتُ حزناً كبيراً جداً جداً عليها وأدركت أنَّ العالم انتهى بالنسبة لي، فلمن سأعيش بعد الآن؟ ولمن سأقدّم حياتي وجدالاتي وآلامي وأفراحي وأحزاني؟ مع من سأتحدث وأروي رواياتي التي لا تنتهي؟
لقد ارتبطت حياتي بحياتها حتى صرنا توءماً دون أن نعرف، وصرنا واحداً لأنَّ عيشَنا مشترك.. ومع أنَّ حياتي العملية مستقلّة جداً عن أمي وطبعي مختلفٌ كثيراً عن طبعها لكنني صرتُ أبحث عن زيارات ونزهات مشتركة بيننا، وكما كانت تفعل معي عندما كنت صغيرة، إذ كانت تصطحبني معها في زياراتها -على قلة تلك الزياترات-، صرت أصطحبها معي في زياراتي عندما أصبحتُ كبيرة... فإذا أردتُ أن أسافر انتقيت النزهات والرحلات التي تناسب عمر أمي وجسدها المتعَب، وإذا أحببتُ أن أذهب إلى رفيقتي اصطحبت معي أمي.. لقد صارت أمي جزءاً من زياراتي وبات أهل رفاقي يدعون أمي لتزورهم، وبات كل معارفي يسألونني عن ذلك الملاك الهادئ.
لقد رجعتُ بذاكرتي إلى طفولتي، فكما كانت أمي تمسك يدي وتدّلني على طرقات وشوارع بلدي الحبيب عندما كنت صغيرة، صرتُ أدلّها على شوارع أخرى لم تعرفها أمي عندما تقدمت بها السن قليلاً.. وصارت شوارع بلدي -بحكم تنقلاتي الكثيرة- جزءاً مني أعرف تفاصيلها وزواياها، ولم يعد سائق السيارة قادراً على تضليلي، وكنت أصطحبها معي لأعرّفها على زوايا مدينتي الحبيبة.
باختصار كبير كانت أمي نصفي الآخر، فرغم اختلافنا في الطباع والمزاج والتصرفات، كانت أمي جزءاً من حياتي وتفكيري وباتت في لاوعيي، وفي الأنا المخبَّأ داخلي. لذلك كان طبيعياً أن أشعر بنقصٍ هائلٍ في حياتي عندما ذهبتْ عني وغادرتني، وكان طبيعياً أن أشعر بالموت لفقدها، وألا أستطيع أن أفتح باب بيتنا لأنها ليست فيه، بل هي في بيت آخر أجمل وأوسع وأكثر راحة.. ومع أنَّ صوتها بقي يرنُّ في أذنيَّ وصورتها مازالت مطبوعة في شبكية عينيَّ لا تزول، لكنني لا أستطيع أن أفتح ألبوم صورها وأنظر إليه، لأنني إن فعلت ذلك يدمى قلبي. وعندما أرى صورها المعلّقة على الحائط أنظر إليها وكأنني أنظر إلى أيقونة، فالله وهبنا أن نكونَ مثله آلهة على صورته ومثاله، ومع أنَّ الأيقونة مقدسة، لكن أمي الآن مماثلة للملائكة ترى القديسين والعذراء، وتجلس في أحضان النعيم. ثم أتذكر التطويبات في إنجيل متى البشير التي تقول "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض". فأمي كانت وديعة لذلك ورثت الأرض السماوية.
لقد صارت أمي وجعي وهمّي، فهي تؤلمني كلما فكّرت بها أو نظرتُ إلى صورها أو تخيلتها أمام ناظريَّ، تؤلمني بحبها وحنانها وأمومتها. فالأم خير وبركة..
9 / أيار / 2011