يـُـروى أنّ جحا دخل يوماً بستاناً جميلاً يقضي فيه سحابة نهاره و لمّا تعبت عيناه من التمتـّــع بجماله جلس يتأمّــل ويتفكـّر, فرأى شجرة حور تناطح ذروتها عنان السماء ممشوقة القوام ولكنّها بدون ثمر, ثمّ رأى شجرة جوز ذات جذع عظيم وأفنان باسقة تقف كالمارد في وسط البستان و رأى ثمرتها الصغيرة التي لا تتجاوز حجم البيضة , ثم سقط نظره على الأرض فرأى شجرة اليقطين الممدّدة على الأرض ذات العرق النحيل , و رأى لها ثمرة كبيرة يعجز الرّجل أحياناً عن حملها .
فقال : يا الله ما الحكمة من هذا إنّي أرى النقيضين معاً , فما السرّ في هذا الأمر, فجاءه الجواب سريعاً , إذ هبّت نسمة عليلة هزت الشجر في البستان وجعلتها تتراقص على هذه الكلمات فسقطت من أعلى شجرة الجوز جوزة على أم رأسه فجُرح وسال الدمُ منه بضع قطرات فنظر إلى أعلى وقال : الحمد لله أنّها كانت حبة جوز و لم تكن يقطينة .
لعلّ القارئ لهذه النادرة من نوادر جحا يستنتج منها حكماً عظيمة , أن على الإنسان التفكـّر في خلق الله و إبداعه في كونه في كل زمان ومكان ومقام لا أن يكون نظره مجرد نظر جامد لا حياة فيه , و إذا تفكـّر في خلق الله فيجب أن يكون تفكـّره ضمن الأدب مع الله و لا ينسب لله نقصاً حتى لو كان حديث نفس , فما خلق الله إلا الجمال وما جعل معه إلا الكمال إلى يوم الدين فهذا من صلب عقيدتنا الإسلاميّة , و ثمرة التفكـّر العظيمة هي استنتاج الحكمة التي تطمئنّ بها النفس مع إيمانها , إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلـّم ( الحكمة ضالّة المؤمن حيث وجدها فهو أحقّ بها )
ونستطيع أن نستنتج من هذه القصّة أيضاً أنّه لا تغرنّك أجساد الرجال و جمالهم ومنطقهم فقد يكون الواحد منهم عاصياًً لله عزّ وجل ونكبة على قومه وأهله ولا خير فيه ولا ثمرة منه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلـّم في حديث رفع الأمانة (.... ويـُقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان( .
و نستنتج أيضاً أن الفوز في هذه الحياة وبلوغ ثمارها العظيمة إنّما تأتي من التواضع لله عز ّو جلّ ولخلق الله و ما ثمرة الكبر إلا زوال النعم و حلول النقم وسخط الله عزّ وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ( قال الله عز وجل : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ولا أبالي ) ، و قوله صلى الله عليه وسلّم: يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ، يغشاهم الذل من كل مكان ، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس ، تعلوهم نار الأنيار ، يُسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال .
فهذه قصّة أو نادرة جميلة بريئة من نوادر جحا استطعنا فيها من خلال ابتسامة أن نستنتج منهجاً حياتياً ربانياً نستطيع أن نسير عليه في حياتنا بكل ثقة , و أن نستخلص عبراً لها وقع على الآذان ولها في القلب مكان , حيث كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ربانيين حتى في نكاتهم وضحكاتهم بعيدين كل البعد عن الهزل والسخف والفحش والتفحّش والانحطاط تحت المستوى الأخلاقي الذي ما أمر الله به
وجحا هذا له شخصيتان حقيقيتان إحداهما عربية والأخرى تركية والقصّة السابقة رويت غالباً عن جحا التركي , و هما عالمان إسلاميان و ليسا شخصيتين هزليتين كما يُشاع عنهما , و ما ألصق بهما من قصص هزلية إنّما هي محض افتراء , إذ كانا واعظين ومرشدين صالحين ، فيأتيا ن بالمواعظ في قالب النوادر، ولهما جرأة على الأمراء والقضاة والسلاطين .
فأمّا جحا العربي فهو دُجين بن ثابت الفزاري وهو تابعيّ روى عن أسلم مولى عمر بن الخطاب، وهشام بن عروة، وعبد الله بن المبارك , وكانت أمّه خادمة لأنس بن مالك الصحابي , وذُكر جحا هذا في كتب الجلال للسيوطي والذهبي والحافظ بن الجوزي .
قال الشيرازي: جُحا لقب له ، وكان ظريفاً، والذي يقال فيه مكذوب عليه وقال عنه الذهبي : جُحا هو تابعي، وكانت أمه خادمة لأنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة، وصفاء السريرة، فلا ينبغي لأحد أن يسخر به إذا سمع ما يُضاف إليه من الحكايات المضحكة، بل يسأل الله أن ينفعه ببركاته .
أما جحا التركي الذي روي عنه معظم قصص النوادر هو نصر الدين خوجا الرومي من الأناضول عاش في القرن السابع الهجري , كان عالماً وقاضياً و مدرّساً و إماماً , وكان عفيفاً و زاهداً و يذكر أنّه أنقذ بلدته من بطش تيمورلنك بوساطته عنده .
وقد سمعتُ أحد علماء دمشق الأفاضل يقول أنّه زار قبر جحا في تركيا ( حيث له مقام معروف يزوره الكثير من الناس طلباً للبركة ) فعجب من أمر هذا الرجل الذي مات منذ قرون ومازال الناس يزورون قبره بالآلاف حتى اليوم و الأعجب من ذلك أن معظم الناس يقرؤون على قبره الفاتحة وهم يتبسّمون , فقد زرع الابتسامة على شفاه الناس وهو ميّت .
ومن نوادره
* أنّه سافر إلى إحدى المدن ونزل في أحد خاناتها ففي اليوم التالي قال لقيم الخان : يا أخي إني أسمع طول الليل قرقعة في سقف الغرفة التي نمت فيها فيا ليتك تأتي بنجار ماهر ويكشف على أخشابها ليرى ما فيها فقال له القيم : يا سيدي هذا البناء قويّ لا يتهدم ، وليس ما تسمعه إلا تسبيحاً بحمد الله الذي يسبح بحمده كل ما في الوجود , فأجابه جحا قائلا:ً صدقت وإنما خوفي العظيم من تسبيحه وتهليله لأني أخاف أن تدركه رقة في قلبه فيخرّ ساجداً لله عزّ وجل ّ .
* وسأله تيمور لنك يوماً قائلاً: تعلم يا جحا إن خلفاء بني العباس كان لكل منهم لقب اختص به فمنهم الموفق بالله و المتوكل على الله والمعتصم بالله وما شابه ، فلو كنت أنا منهم فماذا يجب أن أختار من الألقاب؟؟ فأجابه على الفور: يا صاحب الجلالة لاشك بأنك كنت ستـُدعى بلقب نعوذ بالله .
* وترافق قاض وتاجر في الطريق مع جحا ، فقال القاضي لجحا : من كثر لغطه كثر غلطه فهل غلطت يوماً وأنت تعظ الناس؟ فقال جحا ببداهة : نعم صادفت مرة أن خرج مني لغطاً ( قاض ٍٍ في النار و قاضيان في النار) بدل الحديث الشريف ( قاض ٍفي الجنة وقاضيان في النار ) ، ومرة أخطأت فقلت أن ( إنّ التجار لفي جحيم ) بدل الآية ( إنّ ّالفجار لفي جحيم ), فأخجل الاثنين .
وليست القصص التي رويت عن جحا العربي أو التركي كلها صحيحة فالكثير منها منسوب لهما كذباً و ظلماً فما كانا هزليين ولا أحمقين ولا فاجرين .
أما ما نحن عليه اليوم يا أخوتي و أهل بلدتي الكرام من العصيان لله عزّو جل في سهراتنا التي غلب عليها اللهو والعبث فأمر يندى له الجبين فهي مليئة بالغيبة والنميمة و الخوض في أعراض الناس .
وما المرح والنكات والضحك فينا إلا فيها أذىً لإنسان أو طعن في خلق أو تنابذ بالألقاب أو نشر لرذيلة أو سخرية واستهزاء من الآخرين أو سخرية من الدين أو النبي صلى الله عليه وسلّم وهي أخطرها , , فانتبهوا يا إخوتي فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليقول الكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار
فالترويح عن القلوب أمر مطلوب في كل زمان ومكان :
- قال علي بن أبي طالب : روحوا القلوب واطلبوا لها طُرَفَ الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان .
- وعن أسامة بن زيد قال: روحوا القلوب تعي الذكرأي القرآن .
- وعن الزهري قال: كان رجل يجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثهم فإذا كثروا وثقل عليهم الحديث قال: " إن الأذن مجاجة وإن القلوب حمضة فهاتوا من أشعاركم وأحاديثكم ".
- وعن الزهري أنه كان يقول لأصحابه : هاتوا من أشعاركم ، هاتوا من حديثكم ، فإن الأذن مجة والقلب حمض.
- وقال ابن إسحاق: كان الزهري يحدث ثم يقول: هاتوا من ظرفكم ، هاتوا من أشعاركم ، أفيضوا في بعض ما يخفف عليكم وتأنس به طباعكم فإن الأذن مجاجة والقلب ذو تقلب.
و لكن هذا الترويح عن النفس والإضحاك يجب أن لا يتجاوز الخطوط الحمراء وألا يهبط إلى مستوى الهزل و السخافة وضياع المروءة واستغابة الناس و .....و....و , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها أبعد من الثريا ) , وقال ( إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك الناس ، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض ، وإنه ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه ) .
والحمد لله ربّ العالمين