تناول الكاتب القلم ليدوّن على صفحات دفتره ما تمخّض عنه فكره , ولما أصبح القلم بين أنامله خاطبه القلم قائلاً : ماذا تريد أن تكتب اليوم ؟ .
فغر الكاتبُ فاهُ مندهشاً لرؤيته القلم وهو يتكلم , ولكنّ هذه الدهشة لم تدُمْ طويلاً , حيث زالت عنه بسرعة علامات الاستغراب , وقال وهو يبتسم : لا أعجب من أنك سوف تتكلم يوماً , وخاصة في هذا الزمن الذي لم يعد فيه شيءٌ يمكن للمرء أن يعجب منه , وقد سمعتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلمَ السباعُ الإنسَ وحتى تكلمَ الرَّجُلَ عذبةُ سوطه وشراكُ نعله وتخبرُهُ فخذُه بما أحدث أهله من بعده( .
رد القلم قائلاً : لطالما عهدتك ذا فكر نيّر , ولم تأخذ برقبتي يوماً إلا بحق , و لكني لم أعهدك مقلاً , فما بال إقلالك من الكتابة في هذه الأيام , وقد علمتَ بأنهم قالوا قديماً : عقولُ الرّجال تحت أقلامها .
قال الكاتب : صدقت , وما رأيت أحداً صَدَقني في هذه الأيام سواك , إنّ للقلم لحقّاً وحقّـّه مُرتبِطٌ بحقِّ خالقِه سبحانهُ وتعالى ، وإنَّ من حقّهِ : أنّ على العالم أن يفقـّه الجاهلِ ، وعلى الذاكر أن يُنبـّه الغافلِ ، وعلى المُدافع عن الحقّ أن يَدحضَ الباطلِ , وألا يخوض في الجدال بلا طائل فذاك ظل زائل , لا يُثبتُ حقاً ولا يدفع باطلاً , وقد قيل قديماً في حقك : من جلالة شأن القلم أنه لم يُكتـَبْ لله تعالى كتابٌ قطّ إلا به .
وقد أقسم الله تعالى بالقلم ولا يقسم الله إلا بعظيم فقال : ( نّ ، والقلم وما يسطرون ) , وقال صلى الله عليه وسلم : أول ما خلق الله القلم , ثم خلق النون , وهي الدواة وذلك قوله [ ن والقلم ] ثم قال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل , أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة .
وقال الشاعر :
وكفى قلم الكتاب عزّا ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
قال القلم : أي أنك تعني أن يكون للكلمة مغزىً وهدفاً لا أن تكون كلاماً جزافاً أو هذراً لا فائدة منه .
قال الكاتب : نعم , فإنه ما خطّ القلم كلمة ً إلا سئل عنها صاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم , ولا تكون الكلمة إلا رسماً لما هو في القلب وشاهداً عليه .
ولكنْ واأسفاه , فالكلمة في هذه الأيام في خطر عظيم , ويتم اللعب بها كمن يلعبُ بالنار, وتناسى حملة الأقلام قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً , يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ) , وصار فرسان كلمة الحق غرباءَ في هذه الدنيا , وصارت الكلمة بلا معنى , ثقيلة على السمع , وجوفاء بلا سجع , وليس لها أي أثر في المجتمع .
قال سهل بن هارون :القلم أنف الضمير , إذا رعف أعلن أسراره , وأبان آثاره .
فأين الغيارى على هذه الكلمة و أين الذين يأخذون القلم بحقّه ؟ لقد خبت أصواتهم , وتعالت أصوات الناعقين , و كثرت أقلام المتلاعبين , الذين هم على اللغة مارقون , وفي الفتنة غارقون , وفي الفكر منافقون , وللعدو مداهنون , عله يجعلهم من المقربين .
فصارت الكتابات بلا أمانة , وصار العرض والوطن فيها سهل المنال , و مديح العدو حق يقال , يوهمون الناس أنهم يسيرون على مبدأ { أعرف عدوك تنال منه } ولكنهم في الحقيقة يسيرون على مبدأ { تقرب من عدوك ينالك شيء منه }, والكاتب منهم خائن للأمانة ظاهر الخيانة , وصارت مع الأيام كتاباتهم وجهة نظر, واختلط الغثّ بالسمين .
قال القلم : ولكنك بذلك رجل متخاذل يا صاحبي .
قال الكاتب : و لِمَ .
قال القلم : ما عرفتك إلا رجلاً لا يكتب إلا بحق , ولا يطرح إلا فكراً تتناقله الأجيال لحسنه وصوابه , ولكنك الآن بإقلالك للكتابة سوف تظهر بمظهر الفارس المهزوم أمام الأقلام الزائفة , وتركـتَ لهم الساحة يسرحون ويمرحون , وانكفأت على ذاتك , فو الله إن كان كل من هو على شاكلتك فعل مثل فعلك لصارت الكلمة فعلاً في خطر عظيم , وهذا ما سوف يودي بالمجتمع إلى الهلاك .
قال الكاتب : كيف أكتب يا صديقي وقد امتلأت الصفحات بزور الكلام وسقطه , وامتلأت الساحات بالأقلام مدفوعة الأجر, وأقلام أخرى واقعة في الأسر , وأقلام لا تكتب إلا بأمر , وأقلام لا تحب إلا الفتن والغدر, فأين يجد قلمي مكانه في هكذا عصر .
ومع ذلك لن أتوانى عن الكتابة , وسأقارع فرسان الكلمة بقلمي , ولن أُحْجِمَ يوماً عن النزال , حتى ينكشف الضلال .
وقد قيل : ما أعجب شأن القلم , يشرب ظلمة ، ويلفظ نوراً , وقد يكون قلم الكاتب أمضى من سيف المحارب .
وقال الشاعر يصف القلم :
يلقى العدا من كتبه بكتــائب يجرين من زرد الحروف ذيولاً
فترى الصحيفة حلبةً وجيادها أقلامه وصريرهن صهيلاً
في كفه قلم أتــمُّ من القنـا طـولاً وهنّ أتم منه طولا