news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
حديقة بلا أسوار ... بقلم : مختار الدانة

دعاني صديق قديم للقاءه .. وبسبب طول الغياب وشوقي لأحاديث سمير الممتعة في إختلافها .. الممزوجة بأمل لا ينضب وحب واسع وطفولة نيرة وشوق متقد بالسفر نحو الأمام ويأتي ذلك كله مصحوباً بضحكة تتحدى المجهول ولمعة عيون سود تُنير المستقبل ...  


بسبب ذلك وصلت قبل الموعد بساعتين ونيف .. فما كان من العجوز المستعمر لجسدي الشاب إلا أن يسوقني ليتفقد حبيبته المتمردة التي قتلت كل عشاقها وزينت شوارعها , وزينت بيوتها , وزينت سمائها وماءها بحناجرهم , وروت زنبقها وياسمينها و ورودها المخملية الحمراء بدماء حسادها وهُيَّامها فصارت نسائمها عليلة تارة وقاتلة أحياناً.

 

فبدت لي حديقة بزي جديد والملفت بأنها بلا أسوار ؟؟؟؟ أستغربت هذه الحديقة فما عهدت في بلدي حديقة بلا أسوار؟؟؟!!!.

دخلت صورة الحديقة إلى نفسي فأيقظتني وبثت قشعريرة في بدني فطبعت ضحكة أعادت للعجوز لون عينيه الأزرق البحري .

سرت في الحديقة وجسلت بمقعد القلب للجسد.

 

من الممتع جداً أن تسترخي في حديقة بلا أسوار , ففوح الياسمين أقوى , وخضرة الشجر أنقى , وزقزقة العصافير المنادي للبيات أروع .

حتى حركات الناس بدت لي مختلفة وأصواتهم تآلفت مع سيمفونية الطبيعة فرقت وعزبت.

 

وفجأة ناداني شاب يطلب الإذن بالجلوس على المرج المحاذي للمقعد مبرراً بأنه مكان لقائه وأصحابه.

كان الشاب ذو هيئة تثير حفيظتي , فشعره الأسود طويل مربوط , ومعظم وجهه مخفي بنظارات شمسية , وقميص غريب التصميم وكأنه دَمج لعدة قطع بالية , مع بنطال جينز تقاضمته وحوش ضارية..., ووشوم على ساعديه , وتركيبة غريبة لحاجبيه.

أظهرت السماح لهب تعابير تمتزج فيها الدهشة والحزن والتردد.

 

قفز الشاب من فوق الكرسي بحركة خاطفة وتقابل مع العشب الذي رحب به بعطر طبيعة.

أخرج حاسبه المحمول وتاه في غيابات أشعلت فضولي, وما هي إلا دقائق حتى أجتمع نفر من رفاقه ألقوا التحية وافترشوا الأرض.

تاهت أفكاري وفعلت الأحكام المسبقة والتخيلات فعلها فأفقدتني لحظات الاستمتاع باكتشافي لهذه الحديقة, ودفعني لمراقبة هؤلاء الرهط.

 

كلامهم فيها الكثير من الاستعارات الأجنبية مع بعض الألفاظ التي أضافها هذا الجيل على اللهجة عنوة فأجبرها على الدخول في عالم أخر.

 

تكلموا عن أخر الألبومات الغنائية لمطربين أجانب , وعن الإصدارات الجديدة لبرامج وأنظمة حاسوبية, وروايات وأفلام فرنجية ومشاركات بمجموعات إفتراضية على مواقع التواصل الإجتماعي.

 

حديث جميل جعلني  أخجل من الأحكام المسبقة فأردت الإعتذار والتعرف على هذا العالم الجديد الملئ بالمفاجآت , فقاطعتهم بالحديث بإضافة معلومة حول رواية ثم فاجأتهم بظني حولهم وأعتذرت , ما بدت عليهم دهشة وضحكوا.

 

عرفتهم بنفسي وتعرفت إليهم , جميعهم جامعيون ,يدرسون علوم الفن الموسيقى والآداب والمسرح , فروع ممتعة والواحد فيها كُلٌ, ولا يوجد فيها سقف ولا تأطير للحرية.

إختاروها هم ولم تملي عليهم عائلاتهم تخطيط حياتهم بناءً على مقارنات أو رغبات بإشباع عقد نقص تُوهم بفخر زائف.

الثقافة الغربية محور همهم بكل مكوناتها , لأنهم – والقول لهم - وجدوا فيها ما يشبع حاجاتهم فلا موسيقانا تعجبهم ولا قصصنا تشدهم ولا تاريخنا الملئ بالهزائم يفرحهم.

وكالعادة حاولت الدفاع الذي دفعني إليه الحمية لا القناعة فبادروني بمقارنات واستنتاجات وأرقام فاستسلمت ووافقتهم.

 

هم لا يخجلون من القول بأن آدابنا مترهلة وبأن موسيقانا مزعجة وبأن تاريخنا متغير مع تغير الحكام, وأن أراضينا المنتفخة بالحضارات لم تُنجب إلا نسلاً عاجزاً أعمى وأصم.

بينوا لي المعارك التي خاضوها مع أهليهم برفضهم الموروث بكل صيغه وبكل تفاصيله فهو بالنسبة لهم مرض سرطاني معدي, أمات الأمة قبل نشوءها.

رفضوا الهوامش وانطلقوا للمطلق , تبرؤوا من الأمجاد الزائفة وقرروا أن يبدؤوا من جديد , قرروا أن يبحثوا عن الهوية التي دمرها الأجداد بأمجادهم , بل قرروا أن يخلقوا هوية جديدة مختلفة بمقاييس جديدة وقوانين مبتكرة وعيون ترى أبعد من الأفق , عيون قوية جريئة محاربة سلاحها علمٌ ونور وعمل .

 

اكتشفوا حقيقة أنفسهم وأزاحوا اللثام عنها لينطلقوا إلى كون جديد ملئ بالفضاءات التي تُعطي معناً لحياتهم ومن سار معهم.

لم يعتبروا الثقافة الغربية عدواً بل تآلفوا معها لأنها بظنهم مطية لصنع الهوية وتبريرهم أنه لا يمكن للإنسان أن يبدأ من الصفر أو من تاريخ عفن, فلابد أن يستعير مطية الأوائل ليبني مطيته.

 

رفضوا ملايين اللاءات التي شربناها ونسقيها لأطفالنا , هدموا الجدران التي تحمي ما نظنه مقدساً لأننا هذا ما ألفينا عليه آباءنا , اخترقوا حواجز الخوف والعجز والكسل التي تربينا عليها , أشعلوا قلوبهم وأيديهم وعقولهم لينيروا درباً جديداً خارج الحظيرة التي تربينا بها وألفنا نتنها حتى لنظن العبير ريحاً صرصراً عاتية.

قبلوا الآخر وفهموه وتعاملوا معه لأنهم اتخذوا الخطوة الأولى بالمسار الصحيح وهي فهم النفس وإدراكها , فاعترفوا بنقصهم وضعفهم وبحثوا عن طرق لحل المشكلة وجربوا على أنفسهم واستعانوا بثقافة تهتم بالإنسان فوجدوا حلولاً لكي ينصتوا ويحكموا العقل والمنطق والبرهان ولكي يقبلوا كل الأطياف فالبستان الملئ بأزهار الدنيا أجمل وشجرات متنوعة مثمرة أطيب وألذ , ليس لديهم مشكلة بالاعتراف بالخطأ والإعتذار والعمل على تصحيح الخطأ , نفوسهم سمحة .. رقيقة .. كريحانة غضة.

 

رفضوا الألوان الغامقة الباهتة والأطعمة ذات الوصفات الثابتة وحركات الوجه واليدين والقدمين المكبلة والموروثة من الأجداد.

لا خطوط حمراء في حياتهم فكل الأشياء مطروحة ويمكن الخوض فيها , يتشاركون التجارب والرأي والحياة يتسابقون لعلم وقراءة ومشاركة , خلت قلوبهم من حقد أورثه لنا أجدادنا الأولون , والحسد مصطلح لا يعرفونه , فالفرص متاحة للجميع وكلٌ حسب جهده ووسيلتهم لذلك الفضاء الإفتراضي عالمهم الغني بكل ما لا يستطيع آباؤهم على تخيله.

أجدادهم عُلومهم ومُقدسهم عملهم وسلاحُهم حريتهم وهدفُهم هويتهم.

 

أطلعوني على نسخ من الروايات الغربية التي كنت قد قرأتها مُعربة والفارق أنهم يقرؤونها بلغتها فيتشربون الفكرة وينتشون بالمعنى وليسوا مضطرين لأن يأخذوا صورة غير متكاملة عبر مرور الروايات على فلترة مجتمعاتنا.

 

أسمعوني كلمات لأغنيات غربية تغني للطفولة والطبيعة والإنسان ؟؟؟ نعم الإنسان معاني ترتقي بالروح لتشرئب فرحة مستبشرة , وأغانينا منذ الخليقة مكررة ومزعجة وباردة.

علومنا مزيفة وصوتنا مزيف ونظرة أعيننا مزيفة وحتى القلوب في صدورنا مزيفة وكل القناديل التي ورثناها مزيفة ومعتمة.

قدموا لي عرضاً لرقصات تُشع بالإبداع , يُترك فيها للجسد العنان ليلتقي مع المجموعة بحسبان.

 

ولكن للتكنولوجيا أيضاً مساوئ , فرنة من صديقي تذكرني بالموعد أعادت العجوز إلى جسدي الشاب.   

ودعتهم بعد  تبادل الإيميلات والضحكات وتمنيت لهم أن يحققوا ما لم نفكر يوماً في تحقيقه.

سردت لصديقي القصة فسألني عن سبب اختلافهم عنا رغم أن فارق العمر ليس بكبير .. فأجابته بعد تأمل وتفكير بأنهم خُلقوا في حدائق بلا أسوار.   

 

2011-09-05
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد