مازالت النظرة الاجتماعية إلى الطب النفسي، أو حتى الحالة النفسية نظرة تشوبها الريبة والشك، وحتى السخرية أحياناً كثيرة. وهذا مردّه إلى الاعتقاد شبه السائد بأن المريض النفسي مختل عقلياً، وبالتالي يُنظر إليه على أنه إنسان غير طبيعي أو غير سوي.
من هنا جاء إهمال هذا الجانب المهم من حياة الناس، وبالتالي تفاقم المشكلات الاجتماعية التي تعود في أصولها إلى منشأ نفسي.
صحيح أننا منذ سنوات قليلة بدأنا نشاهد أو نألف وجود العيادات النفسية، وصحيح أيضاً أن وزارة التربية باشرت منذ سنوات أيضاً بتعيين مرشدين اجتماعيين ونفسيين في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، وهي المرحلة الأشد خطورة في حياة الإنسان، لكن هذه الخطوة ما زالت منقوصة وتُعاني خللاً كبيراً في تعامل الهيئة الإدارية في المدارس وقسم كبير من أهالي التلاميذ وذويهم معها، وذلك لعدة عوامل أهمها
- سيادة الذهنية الرافضة لوجود هذا النوع من الأمراض سواء من الأهالي أم من الهيئة الإدارية في المدارس، وبالتالي رفض وجود هذا الاختصاص من أساسه.
- عدم قناعة كثير من الهيئات الإدارية بضرورة وجود اختصاص كهذا في المدارس، واعتبار المرشد النفسي والاجتماعي كائناً متطفلاً على العملية التربوية، وقد يكون منافساً قوياً لزعامة المدير أو الموجه.
- النظرة الخاطئة التي تشوبها الريبة في هذا المرشد سواء من بعض الأهالي أم من بعض الإداريين، باعتبار أنه سيغوص في خصوصيات التلاميذ، وربما يشجعهم على سلوكيات مرفوضة اجتماعياً وتربوياً، أو قد يمهد الطريق للتلاميذ من أجل قيام علاقات غرامية بينهم، وهذا ما عبّر عنه كثير من المرشدين، واصفين طريقة التعامل معهم ومحاولة تجاهلهم أو التضييق عليهم من إدارة المدرسة.
- نظرة بعض المرشدين أنفسهم إلى اختصاصهم ووجودهم في المدارس على أنه مجرد وظيفة روتينية تؤدي لاستلام راتب جيد في نهاية كل شهر، وما عدا ذلك لا يهم.
- تلكؤ وزارة التربية من جهة، إضافة إلى أن خطة الحكومة في تعيين المرشدين النفسيين تعتمد أسلوب المسابقات النادرة لانتقائهم وتعيينهم في المدارس.
ورغم كل هذه المعوقات، إلاّ أن هناك حالات إيجابية في بعض المدارس، سواء من الهيئة الإدارية أم من المرشدين أنفسهم، من خلال التعاطي الجيد مع مسألة الإرشاد النفسي والاجتماعي باعتبارها مسألة تتجه أساساً إلى التلميذ، وتهدف إلى المحافظة على سويته النفسية والشخصية، لاسيما أننا نعيش في زمنٍ يتسم بالخوف والاكتئاب والقلق نتيجة المتغيرات المتسارعة التي تطرأ على حياة الأهل والمربين والأبناء جميعاً.
د. رشا شعبان الاختصاصية في التربية النفسية في كلية التربية (قسم الفلسفة) أوضحت في لقاء مع صحيفة (الثورة) أن (الإرشاد النفسي خدمة تربوية تهدف إلى المحافظة على كيان الأفراد وكيان المجتمع ليكون سليماً ونامياً وقوياً. وقالت د. شعبان بما أننا نتحدث عن وجود الإرشاد النفسي بمدارسنا فإن له أهدافاً أهمها تحقيق ذات التلميذ. فمحور العملية الإرشادية هو التلميذ الذي نسعى دائماً لتنمية ذاته وتقويمها، إضافة إلى إحداث التوازن بين الفرد ونفسه وبيئته.. أما الهدف الأساسي وهو محور حديثنا.. فهو تحقيق الصحة النفسية والوصول بالفرد إلى الشعور بالرضا والهناء).
من هنا، وانطلاقاً من هذا القول للدكتورة شعبان، نجد أن مسألة الإرشاد النفسي والاجتماعي في مدارسنا باتت ضرورة ملحّة وحتمية من أجل تخفيف أعباء هذه المرحلة العمرية الحسّاسة من حياة التلميذ، والتي تتسم أساساً بالقلق والتوتر، والبحث المضني من أجل معرفة الذات والمحيط. وهنا تأتي مهمة هذا المرشد من أجل مساعدة التلميذ على تحقيق ما يصبو إليه بصورة سلسة وأسلوب متواضع يُشعر التلميذ بأهمية طموحاته وتساؤلاته، وكذلك مساعدته في حل بعض المشكلات المدرسية والأسرية.
كما أن على الأهل والهيئة الإدارية، التعاطي مع المرشد النفسي بكثير من الثقة والاحترام والتفّهم، لأنه المساعد الأساسي لهم في إيجاد حلول علمية لما يعترضهم أثناء قيامهم بواجبهم التربوي والتعليمي من مشكلات، وكذلك مساعدة التلميذ على تخطي الكثير من العقبات التي تعترض حياته النفسية والاجتماعية والعلمية. وهذا ما هو موجود فعلاً في بعض المدارس التي يوجد فيها هيئة إدارية واعية، إضافة إلى مرشد يعي تماماً حجم مسؤولياته تجاه التلميذ والمجتمع. فهل نصل فعلاً إلى يوم نجد فيه الطب والإرشاد النفسي ضرورة ملحّة للجميع، بحيث يبحثون عنه كلما اعترضتهم إشكاليات يعجزون عن التعاطي معها أو حلّها...؟