لكل مرحلة من تاريخ المجتمعات الإنسانية مفاهيمها الخاصة التي تؤطر نمط تفكير الأفراد والجماعات، وتُحدد طبيعة العلاقات القائمة بينهم. وأحد هذه المفاهيم هي المواطنة التي رافقت مرحلة نشوء الدولة.
وجاء نشوء الدولة ضرورة مرافقة للتطور الاقتصادي في المجتمعات البشرية، أي مع نشوء الملكية الخاصة، فقد كان المجتمع في تلك المرحلة مقسوماً إلى فئتين، فئة المالكين وفئة المعدمين، وهذا بالتالي أدى لنشوء جملة من التناقضات سادت العلاقة بين هاتين الطبقتين، مما استلزم قيام الدولة من أجل رعاية مصالح أفرادها.
عرَّف علماء الاجتماع والقانون الدولةَ بأنها (جماعة من البشر يعيشون في أرض معينة مشتركة مؤلفين هيئة سياسية مستقلة ذات سيادة).
من هنا نجد أن مفهوم المواطَنة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الدولة، وبالتالي فإن المواطنة بمفهومها الواسع هي الصلة أو الرابطة القانونية بين الفرد والدولة، التي تتحدد فيها العلاقة بين حقوق الفرد في الدولة وواجباته تجاهها. وبذلك يكون الفرد في هذه الدولة مواطناً قبل كونه أي شيء آخر، وانتماؤه يكون للدولة لا لغيرها من الانتماءات الأخرى. هنا فقط تكون المواطَنة هي الشعور الحقيقي الصادق بالانتماء إلى الوطن، ضمن إطار التاريخ المشترك والأرض المشتركة والشعب الواحد، بما أنها مفهوم إنساني- حقوقي يتضمن جملة من الحقوق والواجبات يكفلها الدستور في بلد ما لمجموع الأفراد المنضوين تحت لوائه.
وعلى هذا الأساس يُعرّف المواطن بأنه الإنسان الذي يستقر داخل الدولة ويحمل جنسيتها، ويكون مشاركاً في الحكم، خاضعاً للقوانين الصادرة عنها، متمتعاً بالتساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، ملتزماً بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة.
فما هي هذه الحقوق والواجبات..؟
يترتب على المواطَنة ثلاثة أنواع رئيسية من الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع مواطني الدولة دونما تمييز من أي نوع الدين، واللون، والجنس، أو اللغة،.. إلخ.
الحقـوق
أولاً- الحقوق المدنية
وتتمثل في حق المواطن في حياة حرّة كريمة، وعدم تعرّضه للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية التي من الممكن أن تحّط من كرامته، والاعتراف أيضاً بحريته ما دامت لا تخالف القوانين ولا تتعارض مع حرية الآخرين. وحقه في حيازة بعض الملكيات الخاصة، وكذلك حقه في حرية التنقل واختيار مكان إقامته داخل حدود الدولة ومغادرتها والعودة إليها، وحقه في المساواة أمام القانون والاعتراف بشخصيته القانونية وحماية القانون له...
ثانياً - الحقوق السياسية
وتتمثل بحق المشاركة في الانتخابات (التشريعية والمحلية والرئاسية)، وحقه في الترشُّح لهذه الانتخابات، والمشاركة في القرار السياسي من خلال انتسابه إلى الأحزاب والجمعيات والمنتديات المدنية والنقابات العمالية والمهنية، إضافة إلى حقه في تقلّد الوظائف العامة في الدولة، والحق في التجمع والتظاهر السلمي.
ثالثاً- الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية
وتتمثل الحقوق الاقتصادية للمواطن بحق العمل والحرية النقابية، وكذلك حقه في إقامة المشروعات الاقتصادية الخاصّة بما يتوافق والقوانين الناظمة. وتتمثل الحقوق الاجتماعية لكل مواطن بحدٍّ أدنى من الرفاه الاجتماعي، وتوفير الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، والحق في الغذاء الكافي والمسكن والتنمية الاجتماعية، والحق في بيئة نظيفة وخدمات كافية. أما الحقوق الثقافية فهي حق كل مواطن بالتعلُّم والوصول إلى منابر ووسائل الثقافة بجميع اتجاهاتها، إضافة إلى حرية الرأي والمعتقدات، وصون ثقافة الأقليات.
بعد هذا الاستعراض البسيط لحقوق المواطنة، نجد أن هذه الحقوق هي أشبه بواجبات على الدولة تأمينها وصونها لمواطنيها، وبالتالي فإن حقوق الدولة هي واجبات على المواطن بالمقابل، فما هي هذه الواجبات؟
الواجبــات
إن الواجبات المترتبة على المواطَن هي نتيجة منطقية للحقوق والحريات الأساسية المترتبة عليها، فمقابل هذه الحقوق تأتي الواجبات التي على المواطنين تأديتها بشكل متساوٍ بين الجميع ودون تمييز لأي سبب من الأسباب التي ذُكرت سابقا، فهي علاقة تبادلية، الهدف منها مصلحة الفرد والدولة وتحسين أوضاع المجتمع وتطويره.
تتمثل هذه الواجبات بما يلي
أولاً- واجب دفع الضرائب للدولة
فالمواطن عندما يلتزم بهذا الواجب يكون بالضرورة مساهماً في دعم اقتصاد الدولة وتنميته، وبالتأكيد فإن هذا الدعم في النهاية يعود إليه على شكل خدمات وحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية. فالضمان الاجتماعي مثلاً تستطيع الدولة توفيره من خلال هذه الضرائب التي هي أحد الموارد الأساسية للدولة، لذا فهي ضرورية لاستمرارية الدولة والمجتمع.
ثانياً- واجب احترام القوانين وتنفيذها
لأن هذه القوانين تُشرّع عن طريق السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب، وبما أنها ستُطبّق على الجميع دون تمييز، فيستخدمها المواطن لأنها تحقق له الأمن والنظام والحماية المطلوبة، إضافة إلى تحقيق المساواة والديمقراطية لجميع مواطني الدولة.
ثالثاً- واجب الدفاع عن الوطن
هذا الواجب يتمثل بالسلوكيات الإيجابية التي يسلكها المواطنون، ولكن أبرزها ما يُسمى بخدمة العلم، فهو واجب مطلوب من كل مواطن للدفاع عن وطنه و مواطنيه في حالات السلم والحرب، وهو واجب منطقي لأنه سيدافع عن وطن حقق له مواطنيته الحرّة والكريمة من خلال ما وفرته له الدولة من حقوق وحريات وخدمات مكّنته بالتالي من المشاركة في الحكم، إضافة إلى الشعور بالعدل من خلال تحقيق مبدأ المساواة بين أفراد الشعب، مما يعزز الانتماء الوطني لديه.
إن مبدأ المواطنة القائم على الحرية والعدالة والمساواة، بغضّ النظر عن أيّة انتماءات أخرى ينزع فتيل أي نوع من أنواع الفتنة مهما كان كبيراً، ويُبعد كل خطر داخلي أو خارجي محتمل على الدولة مهما كان فظيعاً، لأن الشعب بكامله وبحرية مُطلقة سيدافع بكل إمكاناته وطاقاته عن دولته.
إن كل ما تقدّم يتطلّب بالأساس ممارسة مواطنية تعمل على تغليب الانتماء إلى الوطن على أي انتماء آخر. وهنا بالذات يمكننا القول إن التربية المواطنية قد قامت بوظيفتها الفعلية التي تمكّنها من الوصول إلى أهدافها برعاية المواطنين وتنميتهم وتعزيز وعيهم السياسي والإنساني في ظل نظام ديمقراطي يحترم مواطنيه.