منذ أشهر عديدة فقط كان هذا السؤال يمرّ دون أن نتوقف عنده: هل أنت طائفي؟ هل أنا طائفي؟ ليبدو أنه بلا معنى
وما هو إلا نوع من المبالغة الكلاميّة التي لا تقدم ولا تؤخر، بما أننا نسلّم بعضنا على بعض ولنا أصدقاء مشتركون، وأحياناً زيجات مشتركة. فإذاً نحن لسنا طائفيين، فلا نحن مثل العراق، ولسنا مثل مصر، ولا نشبه أبداً لبنان الدولة الطائفية بتكوينها السياسي، ولا أي دولة من حولنا.
اليوم نقف أمام هذا التساؤل بجديّة أكبر وبمسؤولية أعمق، فلا الوقت مناسب للمواربة، ولا المجاملة تفيد في إخماد ما يبدو الآن واضحاً.
نعم، نحن طائفيون.. هكذا اعترف نائل في السنة الثالثة أدب عربي، وقال: اليوم أستطيع أن أخمن مدى الطائفية التي نعيشها والتي كنا نستتر تحت أقنعة كثيرة لنلون أنفسنا خجلاً مما نشعر به داخلنا ولا نستطيع الاعتراف به. اليوم في خضم ما نعيشه، أشعر أن الطائفية ليست جديدة علينا، إنما هي جزء من تربيتنا وحياتنا اليومية. لكنها لم تكن تؤثر سلباً على منحى حياتنا، واليوم باتت تحتاج إلى الكثير من الدراسة والبحث.
أما نجلاء يوسف فترى مدى المخزون الطائفي الذي يختلف من مدينة إلى أخرى، وتقول: كنت في بدايات دراستي الجامعية، وعندما أتيت للدراسة في دمشق تعجبت من هذا العالم الواسع. ففي قريتي طائفة واحدة تشبه بعضها في كل ما تعيشه. وكنت أعتقد أن كل الناس من هذه الطائفة فهذا هو العالم، لم أكن أفكر كثيراً في هذا الموضوع، إلى أن وجدت نفسي خلف مقاعد الجامعة أمام أسئلة كثيرة من قبيل: من أين أنت؟ آه أنت من جماعتنا، أهلاً وسهلاً! أو ممن أنتِ من إخوتنا الـ (...)، أهلين كلنا إخوة! ويلتفُّ حولي من هم (من جماعتي) ليبتعد عني من هم (ليسوا من جماعتي) وهكذا تتكون مجموعات بطريقة آلية، كل جماعة مع بعضها، وهذا لا يعني أن المجموعة كلها من الطائفة نفسها لكن على الأقل من نمطية عيش مشابهة.. لكن كنا دوماً نقول نحن لا يوجد عندنا طائفية. كبرت وكبر معي هذا النمط من التفكير الذي لم يكن تفكيري وحدي، لكن إلى فترة ما لم يكن يؤثر على حياتي. اليوم الموضوع اختلف، علينا أن نقف أمام مشكلة حقيقية،الطائفية بمعناها السلبي، لكن ما هي أسبابها؟ هذا ما يقع على عاتقنا كلنا، والأهم الدولة.
طائفتي هي سورية.. بهذا عرّف لي مهند طائفته، شعار بات معروفاً اليوم أكثر من أي وقت مضى، وقال: أنتمي إلى سورية فقط وهي طائفتي، وعلينا أن نعمل معاً لأجل تكريس هذا المفهوم، وهو يتجلى بالمواطنة، وهذه مسؤولية علينا كلنا أن نعمل من أجل إبعاد شبح الطائفية وخطر الحرب الأهلية في بلادنا. ولن ننجو إلا إذا بدأنا معاً دون انتظار حلول من السماء. يجب أن نعترف بسلبيات الحكومة والسياسة التي أوصلتنا إلى هذه الحجرة الضيقة. لكن برأيي الوقت لم يفت بعد.. هكذا ختم مهند كلامه، وهو يعمل ضمن مجموعة شباب سورية لغد أفضل.
لنعاود السؤال مجدداً: هل الطائفية معيبة؟ هل هي سلبية دوماً؟ هل تعني بجميع أشكالها الخراب والتفرقة وخطر الحرب الأهلية؟
يعرّف الباحث كاظم شبيب الشبيب الطائفية فيقول: لا تنحصر الطائفة بجنس محدد كالدين والمذهب واللغة والعرق. فأي جماعة من أي لغة كانوا أو دين أو مذهب يمكن وصفها بالطائفة.. أما مفردة (الطائفية) فهي مشتقة من الطائفة. وكما يقول النحويون, هي مصدر صناعي ينتهي بياء مشددة وتاء مربوطة، ويصاغ من الأسماء الجامدة والمشتقة مثلما يصير الحر: حرية, ويصير الإنسان: إنسانية، وهي كالقومية نسبة إلى القوم وكالعربية نسبة إلى العرب.
هذا الاشتقاق لا يعني إضفاء مسحة سلبية على الطائفة المعنية أو اتهام جماعة ما بما هو معيب وقبيح, وإنما هو توصيف وتأكيد للارتباط الطبيعي لأفراد جماعة ما ضمن دائرة مشتركة ما كالجنس والدين والمذهب واللغة والعرق.
إذاً، كما ذكر الباحث، هي ليست معيبة بحد ذاتها، لكنها في الأزمات تبرز بطريقة سلبية، يؤكد الباحث: لكل فتنة طائفية، عند وقوعها، أسباب آنية لاشتعالها، وقد تكون هذه الأسباب مجرد عود الثقاب الذي يشعل الفتيل، وأحياناً تكون مفتعلة لحاجة المفتعِلين إلى تغيير الظرف والجو السياسيَّيْن المحيطين بهم. ولكن هناك أسباباً شبه ثابتة تقف خلف الكثير من الفتن الطائفية تاريخياً وحاضراً وربما مستقبلاً أيضاً.
أهمها غياب ثقافة التعددية الفكرية وثقافة التوافق السياسية, وبالتالي غياب القبول بالتعددية الاجتماعية والثقافية في المجتمعات عامة. من هنا تأتي مصيبة الخلط في إدراك المفاهيم بشكل مغلوط, كالخلط بين مفهومَيْ الطائفية الطبيعية والطائفية الشاذة, أو بين مفهومَيْ الطائفية كسياسة تُمارس، والطائفية كحالة اجتماعية, أو بين التوافق الطائفي والتمييز الطائفي.
إضافة إلى المصالح الضيقة, أو الأجندات السياسية عند بعض الأشخاص أو بعض الجماعات المعنية بالطوائف أو المهيمنة عليها, فتعمل لأجلها دون النظر إلى الأخطار المترتبة عليها. وكذلك غياب الرؤية السياسية والإستراتيجية للأطراف الداخلية المعنية بالفتنة الطائفية، وبالتالي تستجيب لأفعال الأطراف الأخرى بردَّات فعل مشوشة، بسبب ارتباك أجندتهم العملية التي تترجم تلك الرؤية، إن وجدت. وبذلك تساهم بعض الأطراف الداخلية في إضرام نيران الفتنة الطائفية.
لم يكن شبابنا اليوم بعيداً عن محاولة درء الفتنة الطائفية، فهنالك العديد من الدعوات إلى لقاءات حوارية وتجمعات على شبكات التواصل من مثل: (شباب سوري لنبذ الطائفية والفتنة من أجل التغيير)، (ميثاق شرف ضد الطائفية)، (حركة الشباب السوري من أجل منع الطائفية)، (طائفتي هي سورية) إلخ.
لتبقى المواطنة أساساً حقيقياً وقوياً في مواجهة الطائفية السلبية، ونبذها، ليبقى المواطن في حضن دولة تشعره بمواطنيته وإنسانيته وكرامته، وهذا سيبعده حتماً عمّن سيحميه بعيداً عن وطنه.