الكومجي السياسي لدولاب التيوبليس ميزة هامة يعرفها مالكو الآليات ، بالإضافة إلى أصحاب الدراجات النارية . هذه الميزة التي تمنح صاحب الآلية مزيداً من الوقت ، للوصول إلى أقرب كومجي ، إذا تعرَّض دولابها للبنشرة ، فيملؤه هواءً ريثما يُتاح له إصلاح الدولاب المثقوب.
صباح يوم مشمس ـ وكعادتي ـ تفقّدتُ دراجتي النارية ، فلاحظتُ إصابة دولابها الخلفي ، بثقبٍ صغيرٍ. الإصابة الحديثة ، سوء المادة اللاصقة المتوفرة لدى الكومجي ، ضيق الوقت ، وانشغالي بأعمالي الخاصة ، بالإضافة إلى إصلاحه الذي يتطلّب وقتاً إضافياً يختلف عن بقية الدّراجات النّارية . هذه العوامل بمجملها ساعَدَتْ على إهمال الإصابة . محل الكومجي وجهتي مهما تنوّعت الظروف الجويّة ، لا فرق بين بردٍ قارص وحرٍ قائظ . ففي كل صباح أقصد محلّ الكومجي ، لأملأ الدولاب بما يناسب من كميّة الهواء ، واعداً إيّاه بعودتي صباح اليوم التالي لفكِّه ولصقه ، وهكذا .... تستمر عادتي على هذا المنوال . كل مرّة تتناقص المدة الزمنية لزيارته ، أملأُ الهواء صباحاً ، لأعود بعد يومين لأملأه مرّة أخرى ، حتى وصلتُ إلى مرحلة زيارته صباح مساء . لم يظهر ما يشير إلى تخرّب وتهتّك في الدولاب ، ولكنني على علمٍ بأن المشكلة تزداد وتتفاقم ، وأنا أغضُّ الطّرف عنها .
صباح عيد الميلاد الممطر ، انتظرَت العائلة إشراقـة الشمس من بين الغيوم البيضاء المتناثرة . ما إن بدا قرصها واضحاً ، وبدأ بخار الماء يتصاعد من بين الأعشاب الغضّة ، حتى أصرّت العائلة بأكملها مغادرة المنزل لإتمام واجبات العيد . جميع العوائق قد زالت ، ولم يكن ثمة مبررٌ أقدمه لهم . حسناً ... جهزوا أنفسكم ... كان الجواب المنتَظَر . هيَ بضعة أمتار مشيتُها ـ بعد أن اكتمل صعود العائلة ـ فخَفَتَ دولابها ملامساً الأرض . صار الدولاب على الجنط .
عادت العائلة إلى المنزل ، وعلامات الحزن بادية على وجوه الأطفال ، فيما خيّم الغضب على وجه زوجتي . سمعْتُها تتمتم .... لقد طلبتُ منك عدة مرات إصلاحه .... لكن دون جدوى !. من بعيد ، بَدَتْ ملامح دراجتي البيضاء له ، وأنا أسيرُ محاذاتها بخطوات وئيدة ، راسمة خطّاً متعرجاً لمسيرها . لقد أظهرَ الكومجي أسَفَهُ لما آلت إليه دراجتي . قال مستهزئاً : مانك فاضي!!! كانت كلفة إصلاحه خمسين ليرة ، أما الآن فقد تجاوزت الكلفة الألف ليرة !!!!!
لم أجد مانعاً في تلبية دعوته على كأس من الشاي ، وإعطاء الدور لغيري ، خاصّة وأن علاقة ودية تربطني معه ، سبّبتْها الزيارات المتكررة ، بالإضافة إلى طَلَبِهِ إبداء الرأي فيما يدور حالياً على أرض الوطن , للشاي طعم مميز عند أصحاب المهن ، تختلف نكهته ولونه وطريقة تحضيره ، أحياناً تكون بطعم المازوت ، وأحياناً أخرى لها طعم البنزين ، أمّا القاسم المشترك لطعمها المميز ، أنها من تعب سواعدهم وعرق جبينهم . قلّما تجد إبريقاً حافَظَ على شكله الطبيعي ، فتتداخل التموجات والطيّات في بنيته الهيكلية ، وقد تمتد ألسنة الشحّار إلى غطائه أحياناً .
بعد أن لبّى طلبات زبائنه ، أمطَرَني بوابل أسئلته وهو يُقدِّم كأس الشاي ........ حدّثتُهُ عن الإصلاح السياسي والاقتصادي .......... حدّثتُهُ عن المؤامرة الخارجية ، الإمارات السلفية ، العصابات المسلحة ، التخريب الممنهج ، القتل على الهوية، عن الشهداء والتمثيل بالجثث ، عن الضغوط الخارجية. رويتُ له ما شاهدتُ بقنواتنا التلفزيونيـة ، عن المسيرات المليونية التي شاركتُ في بعضها ، الممتدة من حلب شمالاً إلى درعا جنوباً ، ومن الحسكة شرقاً إلى طرطوس واللاذقية غرباً . حدّثتُهُ عن إلغاء قانون الطوارئ ، وصدور قوانين الانتخاب والإدارة المحلية والتظاهر السلمي والأحزاب . أسهبتُ في شرحي عن مسودة الدستور العصري الجديد الذي سيصدر قريباً . كان صامتاً طوال الجلسة ، يرفع حاجبيه تارةً ، فيما تتمدد شفتاه وتختلف تضاريسهما تارة ً أخرى .
لم أتمكنْ من شرب رشفة واحدة من كأس الشاي الذي قدّمَهُ ، بسبب ضغوطه المتواصلة بإشارات التعجب والاستفهام التي كانت تعلو وجهه ، مما حدا بي أن أرفع صوتي لأعلى طبقاته صارخاً . ( أنت غير الله ما بيقنعك ) !!!!
قال : ألا تذكر أنك قلتَ لي ذات مرة (حين يعلو صوتك ، فإنك تفقد قدرتك في الإقناع ) . قبل أن تغادر دعني أقولُ لكَ : ( وجه الشبه مماثل لما جرى للدولاب ، وما يجري للوطن ، لقد تأخرتَ .... وأطلتَ إهماله ، هل علمتَ كلفة ذلك ؟ ) . عندها لم أستطع أن أنبس ببنت شفة ..... تركْتُهُ وحيداً ، بعد أن أدرتُ العنان لدراجتي ( الصامتة ) ، نظرتُ بالمرآة فرأيته هازّاً رأسه ذات اليمين وذات الشمال .
تنويه لابد من توجيه الشكر لوزارة ( قَطْع الكهرباء ) ، التي لولاها لما تمكّنْتُ من إتمام كتابة ماورد أعلاه . ياسر دعبول السقيلبية 7-2-2012