غالباً ما نستمع ونقرأ تحليلات لخبراء ومستشاري الأسواق المالية والمؤسسات الدولية، حول علاقة السوق بالديمقراطية وبأن حرية السوق تؤدي إلى مزيد من الديمقراطية والحرية
ودائماً ما نجد إلحاح الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن ممثليها في المنظمات الدولية (منظمة التجارة العالمية- صندوق النقد الدولي- البنك الدولي)، التي تنادي بانتهاج سياسة السوق الحرة حيث يتجلى ذلك في البرنامج الذي تضمنه (توافق واشنطن) الذي يضم كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومة الولايات المتحدة، والذي يهدف إلى تحويل الدول الاشتراكية السابقة والدول ذات التوجه التدخلي نحو اقتصاد السوق.
لكن كان من الممكن القبول ولو بشكل جزئي بهذا الكلام، وذلك على النحو الذي طرحه الليبراليون (أمثال سميث) بأن نظام السوق مشروط بقانون المنافسة ........... وليس الاحتكار.
أي حسب المفهوم الأكاديمي للسوق (ما يُدرس للطلاب وما يتفوه به المختصين في الاقتصاد والمتفوهين في السياسة والمسخرين أقلامهم لهم)، بأنه ليس هناك من فرد مسيطر وليس هناك من منشأة أو شركة مهيمنة، واستعمال تعبير اقتصاد السوق يُراد منه القول أنه ليس هناك من جهة ذات سلطة اقتصادية.
لكن الواقع يقول غير ذلك، السوق الاستهلاكية تُوًّجه وتُدار بمنتهى الحذق والذكاء من مختلف الجوانب، ولكن هذا لا يقال ولا يكتب حتى في الكتب التدريسية للاقتصاد، حيث نجد أصحاب المال والمؤسسات والشركات الكبيرة يبذلون أقصى الجهد لتحديد الأسعار وخلق الطلب، والوسائل التي تدعمهم معروفة: الاحتكار واحتكار القلة Oligopoly.
فالأسواق الحرة أدت إلى اتساع الفوارق الطبقية بين فئة مالكة قليلة العدد احتكارية وفئة فقيرة كثيرة العدد لا تملك، وتجسدت الآثار الاجتماعية للرأسمالية في تزايد انعدام الأمن الوظيفي وقلة الرعاية الاجتماعية وزيادة حدة الفقر، عشوائيات المدن، إهمال القرى والمدن المحلية الصغيرة لصالح العواصم المزدحمة الكبيرة، فضلاً عن الأخطار البيئية...
وهذا ما يضعنا أمام التساؤلات التالية: ما هي الديمقراطية؟ وما هي الأسواق الحرة؟ ولماذا نجحت وتنجح الرأسمالية في حين تضعف الديمقراطية؟
وهناك سؤال هام طرحه روبرت ريتش كيف تقتل الرأسمالية حالياً الديمقراطية؟
هنالك العديد من التساؤلات وإشارات التعجب والاستفهام حول هذا الموضوع، ولكن بالمقابل هنالك العديد من المؤشرات التي يمكن أن تجيب على هذه الأسئلة....، نبين بعضها فيما يلي:
1- إذا ما أخذنا مقارنة بسيطة بين مؤشر الديمقراطية ومؤشر الحرية الاقتصادية نجد ما يلي:
حسب الجدول أعلاه نجد، أنه لا يوجد تناسب وتوازي بين مؤشري الديمقراطية والحرية الاقتصادية، (مثلاً الولايات المتحدة تحتل المرتبة 17 حسب مؤشر الديمقراطية لكن تحتل المرتبة 5 حسب مؤشر الحرية الاقتصادية، هولندا المرتبة 3، 13 على التوالي، سنغافورة لا يوجد لها ترتيب حسب مؤشر الديمقراطية، لكنها تحتل المرتبة 2 حسب مؤشر الحرية الاقتصادية). وهذا ما دعَّمه جون كراي بقوله «أن الديمقراطية والسوق الحرة أمران متنافسان وليسا متلازمين، فالرأسمالية الليبرالية تخفي علاقة شديدة التعقيد، ذلك أن العنصر البديهي الملازم للأسواق الحرة ليس الحكومات الديمقراطية المستقرة، إنما هو السياسات المتقلبة لانعدام الأمن الاقتصادي».
2- من المفترض أن الأسواق الحرة تؤدي إلى مجتمعات حرة، لكن اليوم، الاقتصاد العالمي يؤدي إلى تآكل سلطة الشعب في عالم تأخذ فيه الحكومة المقعد الخلفي للشركات الكبيرة، حيث تحتكر القلة (القادرة على تمويل الحملات الانتخابية) العمل السياسي بما لديها من إمكانيات مادية هائلة تفرضها على ممثليها في المجالس النيابية التي تفرز أفراد السلطة بما يحقق مصالحها.
على سبيل المثال، الإنفاق العسكري، الطاقة النووية تكلف مليارات الدولارات، الطائرة تكلف عشرات الملايين من الدولارات......... من يقرر هذه النفقات؟
إن النفقات العسكرية لا تحدد بعد تقييم جدي ودراسة موضوعية لحاجات الدفاع، ولا تتخذ القرارات بموضوعية ونزاهة، بل إن الجهة التي تقرر هذه النفقات في الغالب هي القطاع الخاص ممثلاً بشركات صناعة الأسلحة والمتكلمين باسمها من رجال السياسة (تخصص هذه الشركات جزء هام من أموالها لتمويل رجال السياسة في واشنطن).
3- إن حركة رأس المال محتاجة في نموها وتدفقها إلى الهيمنة على النظام السياسي والإداري، وهذا ما تضمنه الأنظمة السياسية الديكتاتورية (من يمتلك المال سيسعى إلى امتلاك السلطة السياسية حتى يمتلك مالاً أكثر)، حيث لا توجد تجارة حرة ولا عولمة بدون قرارات سياسية، فالعولمة نتيجة تصور سياسي واعٍ للمجال الاقتصادي، يهدف إلى إعادة الهيكلة والتحرير الاقتصادي.
وإن إزالة القيود الجمركية والعملات المرتبطة وحرية حركة رأس المال......كل هذا يعتمد على الإدارة السياسية، ويقوم عبر القرارات السياسية، والدولة الوطنية تنازلت بوعي كامل عن استقلالية قرارها تجاه السوق العالمية.
4- التجارة الحرة (في العصر الراهن) تعني حرب الشركات والمنتجات ضد بعضها البعض، وبقاء المنتجات التي تدر ربحاً أكبر (ما هو في صالح الشركات الاحتكارية هو في صالح العالم أيضاً)، كما يعتقد الليبراليون الاقتصاديون الجدد.
وكان النزاع والتنافس بين أسياد اتحادات الصلب والفولاذ وصناعة الأسلحة في كل من فرنسا وألمانيا من أهم الأسباب التي قادت إلى الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
ويقول ج. أ. هوبسون: إن المنافسة التجارية تبدأ في مجال الاقتصاد ولكنها يمكن أن تنتهي في ساحة القتال: إن رجال الأعمال يختارون الحرب (في الخارج) عندما يستنفدون أسواقهم في الداخل.
مما سبق نرى بوضوح أن الرأسمالية لا تسير في الطريق الصحيح، ولا يمكن حيث توجد رأسمالية أن يكون هناك ديمقراطية، فالديمقراطية يجب أن تهدف السماح للمواطنين بمعالجة الآثار السلبية السيئة للرأسمالية، لكن في الواقع لا توجد دولة ديمقراطية تتعامل بشكل فعّال وإيجابي مع الآثار الضارة الناجمة عن الرأسمالية.
نعود إلى السؤال الهام هل الرأسمالية تقتل الديمقراطية؟
لا أحد منا ينكر أن الثروة ورأس المال هما مصدر السلطة، ويجب أن لا ننسى أنه كان للرأسمالية زمن وتاريخ، وكان الاصطلاح الذي يرمز إليها لا يعني فقط أنها تمثل نظاماً اقتصادياً، بل أيضاً أصحاب السلطة الاقتصادية، وبالتالي أصحاب السلطة السياسية.
وإذا ما ألقينا نظرة على النظام الاقتصادي في البلدان المتقدمة اقتصادياً..... نجد أن السلطة الاقتصادية بأعلى درجاتها هي بيد هؤلاء الذين يديرون المصانع ومراكز المال ويمتلكون الأراضي والوسائل المالية الضرورية لتشغيلها.
وعليه أصبح رجال الأعمال والشركات الكبرى يؤثرون بشكل مباشر وغير مباشر على السياسات الاقتصادية والاجتماعية وعلى رسم سياسات البلاد، وبما أن الشعب (من المفروض) أنه ينتخب مجلس الشعب والنواب.... وهم المسؤولين عن وضع سياسات البلاد الاقتصادية والاجتماعية، من هنا نستطيع القول أن هيمنة الأسواق أمر منافٍ للديمقراطية ومتعارض معها، إذ كيف تُجيّر الصلاحيات في المجال الاقتصادي والسياسي من القيادات المنتخَبة شعبياً وديمقراطياً إلى القطاع الخاص وحكام الرأسمالية؛ لذا من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تصور وجود نظام ديمقراطي حقيقي في ظل نظام اقتصاد السوق، لأن دور اليد الخفية التي تقود هذا النوع من الاقتصاد سوف تقود البلاد إلى الاحتكار، الاحتكار الاقتصادي والاحتكار السياسي؛ حيث تمارس القلة هيمنتها على الاقتصاد وسيطرتها على السياسة.
هذا هو حال الدول المتقدمة....... فما هو حال البلدان النامية؟ وهل انتقلت هذه الظاهرة في ظل العولمة..؟
التجليات الاقتصادية للعولمة تشكل خطراً على سيادة الدول، ذلك أن منظمة التجارة العالمية بنصوصها المجحفة للدول النامية تجبر صانع القرار في هذه الدول على الانصياع لأوامر الدول الصناعية المتقدمة سواء في مجالات الإنتاج أو التوزيع أو الاستهلاك، وحتى في مجال التبادل التجاري، وإلا فرضت عليها بشكل أو بآخر عقوبات اقتصادية من شأنها أن تتعدى في الواقع على سيادتها.... مما يتعارض مع المبادئ الأساسية للديمقراطية.
وهكذا، فإن ما يحدث داخل الدول من تطورات تقود إلى مجتمعات منافية للديمقراطية الحقة، فجوهر الديمقراطية لا يكمن في الانتخابات.... وإنما في الحد من استغلال المواطنين وتحديد خياراتهم؛ مما ينعكس على طبيعة النظام العالمي، فالأقوياء هم الذين يتحكمون بالقرار الدولي، ونجد ذلك واضحاً في إطار هيئة الأمم المتحدة التي يتحكم بقرارها الخمسة الكبار في مجلس الأمن، كما نجد ذلك في المؤسسات الدولية حيث تتجسد اللاديمقراطية في نظام التصويت الذي تحتكره الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها.
من هذا التحليل، نرى أنه لا بد للعرب، من مثقفين وصانعي قرار وسياسيين، استسقاء دروس وعبر مما آل إليه الوضع في البلدان المتقدمة ومما تسعى إليه في بلدان العالم الثالث؛ فالسوق الرأسمالية ليست رديفاً للممارسة الديمقراطية الحرة، بل المسألة أعمق من ذلك بكثير.