مضى صانع الحقيقة . . .
لعلّه من حسن حظ الحكمة أم ربما من صمودها وانتصارها فهي أبداً تثبت لنا عبر الزمن أنّها تبقى مهما علا على ماء البحر الزبد مضى غير مأسوف عليه قبل أن يستطيع بناء منتجعه على أرض الحكمة بعد هدم دارها واقتلاع ورودها مضى كشبح من غير أن يفهم أن الحقائق المزعومة لا يمكن فرضها مضى صانع ولأنه مكتوب علينا ألّا نحيا بلا صانعٍ فقد أتى صانع آخر أتى بشعارات جديدة . . .
أتى قائلاً : تعالوا أحلم لكم تعالوا أغير لكم جلودكم المتيبسة بجلود حالمة نضرة تعالوا أبني لكم أبراجاً شاهقةً بدلاً من بيوتكم الفقيرة المعدمة تعالوا أحوّل لكم مراعي أبقاركم وأغنامكم إلى فنادق ومنتزهات تعالوا أبني لكم حلماً لكل شيء ومن أي شيء . . . للرياضة حلم . . . للموسيقى حلم . . . للشجر والحجر والنهر والمطر احلموا . . . واحلموا . . .
واحلموا وسأحول كل أحلامكم لحقيقة كل ما عليكم فعله هو أن تحلموا ومن لم يستطع سأحلم أنا بدلاً عنه وله سأكون الجنيّ في مصباح علاء الدين الذي يحقق أحلامكم سأحقق لكم كل أحلامكم بشكل علمي ومدروس من أرقى وأشهر المختصين بدراسة وصناعة وتظهير الأحلام مهما كلف ذلك من مال فالأحلام الكبيرة تحتاج أموال كثيرة ولمّا لم ينجح صانع الحلم بزراعة الأجنحة للشعب المخذول أخلاقياً والمعصور اجتماعياً والمأزوم نفسياً والمكبوت حلميّاً ليطير معه إلى فضاء الحلم رغم كل الملايين التي صرفها ورغم استعانته بالخبراء والمستشارين الغربيين من أعلى المستويات
طلب عقد اجتماع على أعلى مستوى مع كل المستشارين والمختصين والمدراء والفقهاء والعلماء ليعرف أسباب انخفاض مستوى القدرة على الحلم وليجد الطريقة المناسبة للارتقاء بهذا الشعب المهزوم وافتتح اجتماعه بالأسئلة المعتادة : لما لم أستطع أن أجعلهم يحلمون ؟ لما لم يرتقوا إلى مستوى حلمي ؟
كيف سنتجاوز هذه العقبة ؟فجاءه الجواب مباشرة من يده اليمين الذي كان سابقاً اليد اليسرى لصانع الحقيقة وكان من رجالات كل الصانعين فهو يمتلك المؤهلات ليكون يداً تسرق لتعطي وتُقطع ورجلاً تغوص في الرذيلة لتبقى أرجل الصانعين نظيفة وعيناً ترى ما يسمح لها برؤيته فقط وأذناً تسمع ما يسمع ولا تسمع ما لا يسمع إنه ببساطة الرجل الذي يتمناه كل الصانعين قال بوضوح وثقة :
إنهم يدعون أنهم يخشون على أراضيهم وبيوتهم وأغنامهم وأبقارهم فقال له فهل صادرنا أراضيهم ألم نشتريها منهم وبالسعر الرائج ؟وهل سنهدم بيوتهم إلا لنبني لهم بيوتاً أجمل وأفضل ؟وهل منعناهم من تربية الأبقار والأغنام والدجاج إلا لنحسن لهم حياتهم ونحول مناطقهم إلى مناطق سياحية ؟فرد عليه بإيمان الواثق من كذبه والقابض ثمن كل همسة فيه :
لا رد وهو بالكاد يستطيع أن يخفي في عينيه آثار الملايين التي قبضها من التجار نتيجة تسريبه أماكن أقطاب النمو وتغيير المخططات والمساحات المكتسحة للشوارع والأبنية العامة والإدارية رد بصوت عالٍ بوقاحة العاهرات عندما يتحدثن عن الشرف وأضاف بصوته الجهوري مظهراً حماسته المعروفة في كل المواضيع ذات النفع المادي التي أسندت له :
كلا ولكنهم لا يفقهون ولا يفهمون إنهم رعاع أغبياء معدومي الحلم والضمير بل هم أعداء الإنسانية والحضارة والرقي والتطور فأسكته صانع الحلم قائلاً فما الحل :فقال من لا زال يملك ثمالة عقل فلما لا تستشيروا الحكيم فتعالت القهقهات المصطنعة في القاعة وعلا الهرج والمرج وتتالت الهمسات اللائمة إنه يقصد مدعي الحكمة ولما وصل تردد الهمسات إلى أذنه سأل من تقصدونفرد يده اليمين أنه يتحدثون عن مجنون يسكن في دار الحكمة التي قرر صانع الحقيقة هدمها ليبني منتجعاً ولكنك سيادتكم قررتم أن تحولوها لحلم الحكمة فقال متلهفاً ومبدياً استعداده التخلص من كل رجالاته ومستشاريه أحضروه حالاً فردّ عليه من لم يزل يملك ثمالة عقل :
إنّه لا يأتي وكلما طلبه أحد الصانعين يأتي الرد أنّ الحكمة تؤتى ولا تأتي ومن يريدها فعليه الذهاب إليها- اقبضوا عليه وأحضروه حالاً - لا نعرف أين هو- ألم تقولوا أنّه في دار الحكمة - ولكنّه لا يتواجد بهافقال باندفاع من غير أن يفهم أو أن يستوضح عن الموضوع : هيا بنافقالوا له :
إنه يشترط أن تدخل دار الحكمة وحيداً فقال : فابقوا أنتم في الاجتماع وسأذهب إليه وأعود لنرى كيف يمكن الاستفادة منه لم يتوقف عند شكل الدار ولا قدمها ولا عند أي مما يتعلق بها دخل ولما استقبله الرجل ذاته وأعطاه الاستمارة قام بتعبئتها وفي حقل الخدمة المطلوبة من الدار كتب _"غرس الحلم _" وحينما انتهى وحاول إعطاء الاستمارة للرجل الوحيد نفذ ما طلب منه ووضع الاستمارة في الجهاز المحدد وعاد لينتظر في الحديقة متمنياً استبدال كأس العصير بفنجان قهوة ولما قيل له ليس لدينا إلا هذا النوع من العصير أخذه وراح يفكر كيف يمكن أن يكون حلم الحقيقة وكيف يمكن أن تكون دارها الحلم ولم يدم انتظاره طويلاً حيث أحضر له الرجل ورقة مطبوع عليها _" لا حلم بلا عمل _" أخذ الورقة وهو يلعن ويشتم بعد كل هذا العمل ويأتيني الرد لا حلم بلا عمل أي مجنون أنا كي أصدق هكذا ترهات وأي دار لعينة هذهعاد إلى الاجتماع وهو يندب حظه كيف لم يوفقه الله بمن يمكنه الاعتماد عليهم وطبعاً كانت نتيجة الاجتماع ضرورة هدم دار الحكمة ليبنوا عليها حلم الحكمة . . .
يتبع في صانع الجبن وصانع السلام