هي الحكمة التي تبقى أبداً عصية على الفهم لأولئك الذين لا يدركون كيف بقيت دارها لآلاف السنين صامدة بوجه الهدم مع تغيير الصانعين واختلاف سوءهم رغم عدم اختلاف أمنياتهم بهدمها
مضى صانع الحلم قبل أن يبني حلم حكمته المزعوم على أنقاض دارها مضى تاركاً حلمه مزرعة للعتّ في الأقبية والأدراج غير مأسوف إلا على الأموال التي بذّرها وأحلام الفقراء البسيطة التي قتلها مضى تاركاً ليده اليمنى نوبة قلبية وليده اليسرى شللاً ولجوقته الإجرامية الخوف من المحاسبة وما كان مفتاح باب السماء وملبي الدعاء لمن خلفه هو ردة الفعل على الشر المتمكن من معظم قلوب البشر فكان المعيار الوحيد لمن يليه هو طيبة القلب لنزع ما خلّفه صانع الحلم ورجالاته من جراحات في القلوب وأشواك في العقول
وجاء صانع آخر مدعياً أو معتقداً أن الطيبة هي أن يكون مكفوف العينين عن رؤية الشر ومكبل اليدين عن محاسبة الفاسدين و لعلّه لم يكن يوماً صانعاً بل خيال صانع أتى بشعارات تقول من أراد أن يسرق أموال الدولة فليسرق ومن أراد أن يرتشي فليرتشي , مسموح لكم فعل كل شيء على أن تصمتوا . . . على أن لا تسيئوا وتشهّروا وأنا معكم ومنكم ولكم لن أرى كل فسادكم ولن أسمع كل صراخ عنه أوعليه سأريحكم ممن كان اليد اليمنى لصانع الحلم ولكن طيبتي ستمنعني من أن أحاسبه و أسجنه سأكتفي بجعله مسؤولاً فقط عن صياغات القرارات وسأكف يد من كان اليد اليسرى لصانع الحلم عن رقاب الناس و سأجعله مسؤولاً فقط عن الموظفين وسأكبل أيادي جوقة إجرام صانع الحلم وأضعهم في مواقع لا تطالكم فيها سياطهم من كان منكم ممنوعاً من الحلم بتربية بقرة لن أمنعه من أن يبني لها حظيرة في أملاك الدولة
ومن كان منكم ممنوعاً من الحلم بتربية دجاجة لن أمنعه من تربية الدجاج وكل الحيوانات في الحدائق العامةمن أراد أن يُهرّب فليهرّب ومن أراد أن يسرق أموال الدولة فليسرق ومن أراد أن يسبني فليفعل افعلوا ما يحلو لكم ولأن هذه بيئة هي البيئة المناسبة للتمادي فقد اعتبر كل مسؤول نفسه أميراً وبعضهم لم يقبل إلّا أن يكون ملكاً فأعلن استقلاليته ودفن القوانين العامة وطبق قوانينه الخاصة على ما يحكم أو ما يظن أنّه يمتلك وعاثت الفوضى وانتشر الفساد وقل العمل وتأزمت الأوضاع
فتجرأ صانعنا ودعا إلى اجتماع وطلب من المجتمعين القلة الذين حضروا نصحه لإعادة هيبة الدولة وفرض قوانينها على الجميع وكان أغلبهم من الصف الثاني أو الثالث حيث أن رجالات الصف الأول مشغلون بممالكهم وإماراتهم فأحسن المجتمعين نصحه بضرورة أن يعيد إحكام قبضته على كل المديريات وتغيير كل المسؤولين الذين تعدّوا حدودهم وتجاوزوا صلاحياتهم ولأنه يدرك أنه أضعف من أن يتخذ هكذا خطوة بعد أن فقد زمام المبادرة طلب رأياً آخر فنصحه أحدهم بزيارة دار الحكمة علّها تعطيه توصيفاً للحالة وحلاً لها وهذا ما كان فدخل دار الحكمة مثنياً على عراقتها وأصالتها وقدرتها على الصمود بوجه كل هؤلاء الصانعين الذين ما كان لهم من همّ إلّا هدمها واستقبل بالطريقة المعتادة وطُلب منه تعبئة الاستمارة الخاصة بالدار وقام بإملائها وكتب في حقل نوع الخدمة المطلوبة "إعادة هيبة الدولة وفرض قوانينها "
وبعد انتهائه من الكتابة وضع الاستمارة في الجهاز المخصص كما طُلب منه وانتظر في الحديقة معجباً بتناغم ورودها ونضارة ألوانها ولم يدم انتظاره طويلاً حتى جاءته ورقة مطبوعة كتب في منتصفها العبارة " هل في قلبك وطن " وفي أسفلها عبارة بخط صغير تقول عُدْ بعد يومين لاستلام الطريقة المناسبة لحل أزمتك إن استطعت أن تقف في وجه مخطط هدم دار الحكمة وأمضى ساعاتٍ من يومه وهو يضع الورقة على الطاولة ويمسك رأسه بيديه و يعصره ويقول بأسى نعم في قلبي وطن ,نعم رغم ضعفي وعدم قدرتي على القيام بأعباء هذه المسؤولية إلا أن قلبي لم يخل يوماً من الوطن
وهنا انتبه إلى العبارة الثانية وقرأ بصوت عالٍ "إن استطعت أن تقف في وجه مخطط هدم دار الحكمة " فطلب مدير مكتبه وسأله بتوتر واضح في الصوت والتصرفات إن كان يعلم شيئاً بخصوص دار الحكمة فقال له لقد وافقت سيادتك على مذكرة هدم دار الحكمة فقال له أحضرها حالاً فأجابه أنه أرسلها للتنفيذ فقال له اتصل بمدير التنفيذ حالاً واطلب منه أن يوقف تنفيذ الأمر ويأتي إلي حالاً فعاد بعد عدة دقائق ليقول له إن مدير التنفيذ قال أنه أعطى أوامره للآليات للبدء بهدم دار الحكمة بناء على مذكرة سيادتكم وهو مشغول حالياً ولا يستطيع القدوم كما طلبتم
فوقف وهو يقول اكتب كتاباً بإلغاء القرار القاضي بهدم دار الحكمة وتوقيف تنفيذ هذا الهدم وأحضره إلى دار الحكمة لأوقعه وخرج مسرعاً وطلب من سائقه الإسراع وتجاوز كل الإشارات الضوئية وحدود السرعة وعلى طريقة الأفلام الهندية في الوصول في اللحظة الأخيرة لإنقاذ البطل من الكارثة المحتومة فقد وصل بعد انتهاء الآليات من هدم السور الخارجي للدار من جهة المدخل وطمر بعض الورود والأشجار من الحديقة بمخلفات الهدم وكأي جندي مقاتل جسور وقف أمام التركس الذي كان يتوجه لهدم الدار وطلب من سائقه بلهجة آمرة واثقة التوقف عن العمل وتوقف السائق وهو يسب ويشتم مبدياً امتعاضه من توقيفه بهذه الطريقة فأمامه عمل كثير وإذا ما تم تعطيله فسوف يتأخر في إنهاء العمل الذي طلب منه عدم الذهاب إلى المنزل قبل إنهائه ولما عرّفه بنفسه بعد توقف هدير التركس اعتذر السائق قائلاً العبارة المعتادة " عفواً اللي ما بيعرفك بيجهلك "
فرح كثيراً بأنه استطاع توقيف هدم دار الحكمة وأمر بإعادة ترميم السور الخارجي وإعادة زراعة الورود والأشجار التي تم تخريبها وعاد بعد يومين ومر من جانب الردميات والآليات المتوقفة ودخل الدار وسأل الرجل الوحيد فيها عن وجود أي شيء بخصوصه فقال له نعم هناك مغلفاً تُرك لك أخذ المغلف وغادر وهو يفتحه وفتح له السائق باب سيارته وجلس في المقعد الخلفي فوجد في المغلف ثلاث ورقات مطوياتٍ فتح الأولى وقرأ فيها "
إن الطيبة التي تكبل هي جبن , ولا خير في شرف لا يحدث فرقاً "فتح الثانية وقرأ فيها "إن المناسب هو المناسب في القياس قبل أن يكون المناسب في الألوان و قبل البحث عن الألوان المناسبة لثيابنا علينا أن نبحث عن المقاس المناسب "فتح الثالثة وقرأ فيه" إذا لم تستطع وأنت تعرف أنّك لا تستطيع ,
فابتعد "وما بقي من كلام . . . إلا عن الصانع في هذه الأيام . . . وهو ربما صانع السلام ! . . . أو صانع الكلام ! . . . أو صانع الإعلام ! فإن تجرأتُ . . . وإن استطعتُ . . . فانتظروني . . . وإلّا فاعذروني . . . والسلام .