يتسم العقل بأنه موطن التفكير عند الإنسان, وهو في الوقت نفسه موضع الذاكرة وتخزين المعلومات وعلى الرغم من قدراته الهائلة والعظيمة, فهو يبقى محدود الطاقة...
وعليه فإنه ينبغي لمن ينشد الإبداع استغلال تلك الطاقة في مجال التفكير والتحليل, والابتعاد بها قدر الإمكان عن الحفظ والتخزين.
ولنا في أديسون ذلك العالم الجليل خير مثال, فقد كان يعمل على حشد كل ذرة من طاقة عقله في التفكير والاكتشاف والإبداع, مما دفعه ذلك ليكون كثير النسيان وأحياناً ضعيف الذاكرة.
ويدلنا على ذلك أيضاً حِرص مناهج التعليم الحديثة الابتعاد -قدر الإمكان- عن إثقال عقول طلاب العلم بحفظ المعلومات, والاعتماد على تنمية مهارات عقولهم باتجاه التحليل والاستنتاج, فالعلم لا ينمو إلا بفهم المعلومات, ثم تفكيكها وتحليلها, ثم تصحيحها وتطويرها, فإعادة جمعها وترتيبها, وليس بحفظها وخزنها وتقديسها.
والله تعالى حين أراد أن يخاطب الإنسان, فهو لم يخاطب عواطفه ولا جوارحه ولا غرائزه ولا ذاكرته, بل خاطب ذلك الجزء من عقله القادر على التفكير, فالاكتشاف, فالإدراك فالإيمان...
وبقوله تعالى (إِنَّمَا يَخشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَآءُ) دلالة واضحة على أن العلم هو السبيل الوحيد المؤدي إلى اكتشاف قدرة الله, وبالتالي خشيته... وكلمة عالم لا تعني مطلقاً من شَغَل كامل عقله بالحفظ والتخزين بل تعني من استخدم عقله في التفكرّ والتدبّر بآيات الله في الأنفس والآفاق... ويحفل القرآن بمئات الآيات التي تنتهي بعبارات تحض على التفكّر والتدبّر مثل "أفلا تعقلون" "لعلكم تتفكرون" "إن كنتم تعلمون" "أفلا يتدبّرون", والله تعالى في نفس الوقت نهى عن النقل والتقليد الأعمى, بل واعتبره نوعاً من الإشراك والكفر بالذات الإلهية.
ولإدراك أهمية مبدأ الحُجَّة والبرهان عند رب العالمين, فهو تعالى يطلب البرهان من الكافر على وجود إلهٍ آخر قبل إقامة الحُجَّة عليه, فقد قال تعالى (وَمَن يَدعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ َلا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ).
فأساس الدين هو التفكّر والتدبّر, وليس التقليد والترديد, وعلينا للنهوض بهذا الدين أن نسحب الحصانة من التاريخ, وأن نلغي قداسة التقليد, وأن ندرك أن جميع من عاش على هذه الأرض بشر مثلنا... لهم عقول كما لنا, ولهم منطق للأمور كما ينبغي لنا أن يكون... وصلاح الدين يحتم علينا أولاً: إفراغ الذاكرة من كل نص غير قرآني قال تعالى(فبأي حديثٍ بعد الله وآياته يؤمنون), ومن كل تفسير وتأويل يرفضه العقل والعلم.
ومن ثم ثانياً: الاعتماد على مُعالِج العقل لإعداد رؤى جديدة وحديثة تتوافق مع القرآن, وتساعدنا على التكيف مع محيطنا وعالمنا, وتمكننا من الدفاع عن ديننا ومعتقداتنا بالشكل الصحيح, وتبتعد بنا عن كل نص مدسوس ومغلوط أساء لنا ولديننا ولحضارتنا.
علينا وضع تعريف صحيح للإسلام وأركانه, وبشكل يتناسب مع آيات القرآن, والتي تؤكد على أن الأخلاق الحسنة هي ثاني أهم ركن بالإسلام بعد الإيمان بالله, وبوحدانيته... وتؤكد أيضاً على كون العمل الصالح هو ثالث ركن بالإسلام... وتكون الزكاة والإنفاق على الفقراء والمحتاجين هي رابع الأركان, ومن ثم تأتي العبادات (المتمثلة بالصلاة والصيام والحج) كركن خامس متمم للأركان الأربعة.
مع التأكيد على أن الالتزام بالركن الأول -وهو الإيمان بالله وبوحدانيته- والركن الخامس -وهو العبادات- هو من اختصاص ربِّ العالمين كونهما يعبران عن العلاقة بين الإنسان وربِّه, فلا يجوز لأحد فرضهما على أحد, أو تقييمهما لأحد... على عكس باقي الأركان التي يجب أن تُفرض على كامل أفراد المجتمع.
ويكون لنا الحق في تعريف وتحديد أي ركن بما يتناسب مع القرآن, وبحيث أن أي تفصيل لم يَرِد بالقرآن يكون لنا الحق في تفصيله وتحديده بما يتناسب مع واقعنا ومتطلباتنا... فالزكاة مثلاً مذكورة في القرآن ولكن بدون تحديد لقيمتها أو نسبتها, فعلينا تحديدها وتفصيلها بما يتناسب مع حاجة المجتمع ومتطلباته.
علينا الابتعاد بالإسلام عن الشكليات والقشور, والاهتمام بالجوهر والمضمون, وعلينا الإدراك أن الدعوة للإسلام تكون بالحكمة والموعظة الحسنة, وأنه لا إكراه في الدين, وأن الاحترام والتقدير للناس يكون بمقدار أخلاقهم وأعمالهم, وأن نعلم أن الإيمان بالله يتناسب طرداً مع الخلق والعمل الصالح.
التفكّر والتدبّر في كتاب الله هو طريقنا إلى الصراط المستقيم, وعلينا أن نحمِل ما حمَّلنا الله وأن لا يكون مثلنا كمثل الحمارِ يحمل أسفارا...
والله من وراء القصد...