مضى متثاقلا وهو يحمل الأكياس المحملة بالفاكهة والحلويات ، عشر دقائق وأكون وصلت البيت ، قال لنفسه وأحس براحة أكبر .
فتحي أفندي رجل في أواسط العمر حليق الذقن والشاربين مربوع القامة ، خفيف الشعر ، يعمل موظفا في إحدى الدوائر الحكومية لمدة تزيد على العشرين عاما ؛ وأحس بغضب شديد يجتاحه عشرون عاما ومازال حينما يحتاج لاذن خروج من العمل أن يتذلل لابو عبد الجبار ، ذلك اللئيم ، وأحس بضيق وصعوبة في التنفس، فتوقف لشرب كأس من الليمون البارد من عند ابو محمد بائع العصير .
اليوم هو الخميس ، وهو ليس كأي خميس آخر ، فاليوم يصل حسين ، ولده الثاني من معسكره الذي يقضي فيه تدريبه العسكري ، فلقد استدعوه للخدمة العسكرية الإلزامية منذ سنة ونصف وباقي عليه سنة أخرى يلا بتمضى ، ويأّمل نفسه بأن حين إنتهاء "الخدمة العسكرية" سيكون حسين عونا وسندا له في تحمل أعباء الاسرة ، فهو الآن بالكاد يقوم بأولاد زوجته وأولاده . عاود السير والعرق يتصبب من جبينه وتنزل قطرات من العرق على عينيه فيرفرف بجفنيه ليزيح قطرات العرق تلك، فلقد أصبحت الرؤية ضبابية .
فكر... ماذا لو يخترع أولئك الأجانب الشياطين مســاحات آلية لمسح عرق أمثاله وهم عائدون الى بيوتهم حاملين الأكياس بكلتا اليدين ، أشرق وجهه للفكرة ، ثم أخذ يقهقه عندما فكر بأن أمثاله سوف لن يستطيعوا شراء تلك المساحات وبالتالي لن يكون هناك داع لاختراعها . ارتسمت على وجهه علائم الجدية وتمتم وكأنه يقرر دراسة علمية " المخترعون لن يخترعوا شيئا لا يمكن للناس الذين يحتاجونه أن يدفعوا ثمنه ، والناس الذين يستطيعون دفع ثمنه لا يحتاجونه " .
شعر بالزهو للنتيجة التي توصل إليها وداخله نوع من التشفي وهو يتذكر ابو عبد الجبار ، فهو بالتأكيد لم يفكر بالذي فكر فيه وبالتالي فهو على حق عندما جابهه المرة الماضية وثار عليه ورد إهاناته المتكررة وتحكمه فيه وقال له كلمات قاسية جارحه ، فعلا هو يستحق أن أقول له " أنت لست بأحسن مخلوق على هذه الأرض " .
شــاهد وهو يقترب من منزله شــبانا يلبسون البذات العسكرية وهم يمشون الخيلاء ، أبطأ قليلا وهو ينظر اليهم نظرات ملؤها الحنان وابتسامة عريضة على وجهه ، تمنى لو أوقفهم وقبل جباههم . الله يحميكم يا أولادي ، الله يحميكم يا أبطال وأحس بقطرات شوق وحنين تنهمر من عينيه وأخذ يحث السير فاليوم هو الخميس .
اصبح على بعد خطوات معدودات من بيته وتوقف ليشتري خبزا ، فسمع من المذياع خبر تفجير إرهابي وقع عند مدخل "الشام " الجنوبي ، ووقوع ضحايا من المدنيين والجنود ، فخفق قلبه وشحب وجهه : "الله يحميهم ... الله يحميهم" وأخذ يهرول صوب بيته .
عندما وصل تخيل أنه ســمع من يقول له " حســـين اصيب بالأنفجار وفقد بصره " .
(( القصة مستوحاة من حادثة حقيقية لأشخاص حقيقيين ))