"كرة القدم لعبة يعشقها ملايين الفقراء ونحن نريد أن تصل للجميع، الفقير والغني على حد سواء، ولهذا سنقوم ببث مباريات كأس العالم 2014 لجميع دول العالم بالمجان".
هذا ما قاله توماس بيلوت رئيس قناة ZDF الألمانية اثر هزيمة مجموعة قنوات "الجزيرة" الرياضية Be In sport بعد سلسلة تمريرات ناجحة في ساحات المحاكم، مبدياً تعجبه من إصرار الشبكة القطرية "المشفرة" على حجب مباريات المونديال لهذا العام في البرازيل عن جماهيرها غير القادرة على تحمل كلفة الاشتراك، واحتكار حقوق بث بطولة لم يسبق أن تأهلت لها قطر في يوم من الأيام.
كرة القدم، اللعبة الأكثر شهرة ومتابعة على مستوى العالم، هي في الحقيقة لعبة الفقراء لأنه بمقدور أي شخص أن يمارسها متى توفر له كرة ومكان، أو مشاهدتها في أسوأ الأحوال. وكبار اللاعبين الذين عشقوا هذه اللعبة منذ سن الطفولة بدأوا مشوارهم الرياضي باللعب في الطرقات الضيقة والساحات الصغيرة، وتدربوا عليها بكرات بلاستيكية في كثير من الأحيان.
والفقراء هم من اخترع هذه اللعبة لتلبية حاجات نفسية وجسدية وتحقيق نصر يعجزون عنه في عالمهم الحقيقي، ولجأوا الى ركل الكرة بأرجلهم لعجزهم عن تقليد الأرستقراط والنبلاء الذين كانوا يضربون الكرة بعصي طويلة وهم يمتطون الجياد.
بعد عقود من الزمن أصبح كل شيء ممكناً. فاللاعب في الملعب هو النبيل والساحر وصاحب القرار وصانع الأحداث، والبطل والنجم، ومصدر متعة للمشاهدين والمتابعين في كل العالم. كل لاعب يظهر العزم والتصميم على احراز هدف يحقق به نصراً وانجازاً وفرحة لاتوصف. والجمهور المحتشد في المدرجات، والمتسمر أمام التلفزيونات في البيوت والمقاهي والأماكن العامة يحبس أنفاسه بانتظار أن يسجل فريقه المختار أو لاعبه المفضل هدفاً يشعل الملاعب ويلهب حناجر المشجعين في كل أصقاع المعمورة، كما لو أنهم معتقدين بأن أصواتهم تصل الى أذن كل لاعب.
لكن هذه المتعة الجميلة لم تدم طويلاً، ولم تعد في متناول الكل حيث بدأت كرة القدم تضل طريقها بتمريرات متقنة على أرض الملعب وخارجه، وتغيب عن شاشات الفقراء والبسطاء شيئاً فشيئاً، لتصبح متعة نخبوية ولعبة من يملكون المال بحكم الاحتكارات المالية، يتحكمون بكل مفاصلها بدءاً من تنظيم البطولات، وليس انتهاء ببيع حقوق بثها إلى قنوات مشفرة، أو التشويش المتعمد على قنوات بث المباريات. وكالعادة، كان العالم العربي من بين أكثر المناطق تعرضاً لمشاكل التشفير بفعل ذوي القربى.
لقد شهدت كرة القدم تحولاً كبيراً منذ كأس اسبانيا عام 1982 فيما يتعلق بالشركات الراعية وتحصيل ملايين الدولارات، لكن التحول الأكبر الذي حولها من حدث رياضي كبير ممتع وشيق إلى استثمار مالي مربح تلقفته الشركات الكبرى هو بيع حقوق البث للمجموعات الإعلامية العالمية ووسائل الإعلام المختلفة. وبرزت قناة الجزيرة الرياضية كإحدى الشركات المحتكرة لحقوق البث بعد أن اشترت قنوات (إي آر تي) العربية حقوق بث البطولات العالمية لغايات ربحية، وتحكمت بنقل المباريات حصرياً في المنطقة العربية، مع عدم منح حقوق البث لمعظم القنوات العربية. وكنتيجة لذلك تفشت ظاهرة التشفير، وبدأت رسوم الاشتراك بالقنوات المالكة لحقوق البث التلفزيوني للمباريات بالارتفاع عاماً بعد عام، وشيئاً فشيئاً حُرم ملايين الفقراء من عشاق كرة القدم العربية من متابعة رياضتهم الشعبية الجماهيرية المفضلة، لتصبح حكراً على من يمتلك المال.
والأمر لم ينته عند هذا الحد، بل برز المال عاملاً ترجيحياً في تحديد البلد المستضيف لكأس العالم، وأصبح عنصراً أساسياً لتحديد من سيفوز فى المباريات، وسلماً تصعد به الفرق إلى منصات التتويج ورفع الكؤوس وتقلد الميداليات، ودخلت شركات المراهنات والسمسرة شريكاً رسمياً لرأس المال الذي استولى عليها، وأصبحت هذه المراهنة صناعة منتشرة في جميع أنحاء العالم، يقدر حجم تعاملاتها بعدة مليارات الدولارات.
وبدأت كرة القدم تخرج من بين أقدام اللاعبين الصغار المغبرة في حواري المدن الفقيرة، لتستقر على طاولة بارونات المال الكبار ومافيات الرياضة العالمية، ويكتشف فيها أصحاب رؤوس الأموال مصدراً جديداً للربح الفاحش، وسبباً وجيهاً لخصخصتها وتسليع كل ما يتعلق بها.
ولم تعد الرياضة بأشكالها مجرد هواية ومتعة وفن، فقد تحولت الى مهنة يستحق المحترفون فيها أجراً كغيرها من المهن، وأصبح المال هو العنصر الأكثر أهمية للأندية الرياضية. ففي عالم كرة القدم تنفق أندية كرة القدم مئات الملايين من الدولارات من أجل تأمين الملاعب وتأهيل فرقها للمنافسة ودفع أجور اللاعبين والأجهزة الادارية، لكن التكاليف الأعلى تتصدرها أسعار اللاعبين ، التي قفزت بشكل جنوني، وكذلك صفقات الشراء من أجل انتقالهم من نواديهم الوطنية الى أندية أخرى.
في عام 2013 مثلاً أنفقت فرق كرة القدم على مستوى العالم 3.7 مليار دولار على صفقات انتقال اللاعبين المحترفين، وتراوحت أسعارهم مابين 45-100 مليون يورو، محطمة بشكل غير قياسي أرقاماً لم تعتبر قياسية يوماً. ففي منتصف القرن الماضي، تمّ انتقال النجم البرازيلي بيليه من فريقه الأول الذي أسسه وأصدقاؤه إلى نادي سانتوس دون أي مقابل، وبعده وصل المبلغ الأقصى لأبرز النجوم السابقين إلى 13 مليون يورو، وكان ثمناً لانتقال النجم الأرجنتيني مارادونا من برشلونة إلى نابولي.
وهناك نجوم كبار انتقلوا مقابل مبالغ لا تساوي رواتب عدة أشهر في هذه الأيام، فضلاً عن وجود نجوم كبار آخرين لم يتقاضوا سوى رواتبهم لأنهم لم ينتقلوا من نواديهم الأصلية، حيث لم يتقاض الأرجنتيني ليونيل ميسي، أفضل لاعب في العالم أربع مرات متتالية، سوى رواتبه من برشلونة، الذي استهل مشواره الكروي في صفوفه منذ طفولته وارتقى تدريجياً إلى أن وصل إلى الفريق الأول، دون أن يغادره.
وقد يكون مجموع مبالغ صفقات كل أولئك النجوم الذين تنقلوا خلال نصف قرن لا تعادل نصف المبلغ المدفوع مقابل انتقال النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو من ريال مدريد إلى مانشيستر يونايتد(94 مليون يورو)، أو انتقال لاعب توتنغهام الإنجليزي جاريث بيل إلى ريال مدريد(100 مليون يورو) في صفقة تعتبر الأغلى في تاريخ كرة القدم.
وهذا الحد القياسي مهدد بركلة صاروخية حرة قد تفاجأ الجميع، حيث تشير المعلومات الى أن برشلونة لن يمانع في بيع ميسي إلى ريال مدريد مقابل 250 مليون يورو، لكنه لن يكتفي بهذا الرقم، بل سيقوم بفتح مزاد عليه خاصة وأن نادي باريس سان جيرمان المدعوم قطرياً قد تكون لديه النية لدفع أموال أكثر لشرائه، رداً على ما يقوم به برشلونة لاستمالة تياغو دا سيلفا، قلب دفاع الباريسي. وبذلك ينضم لقب اللاعب الأعلى راتباً في العالم إلى قائمة الألقاب الفردية التي يطمح اليها نجوم كرة القدم.
الأطفال بدورهم لم يسلموا من ظاهرة تسليع كرة القدم، فقد ازدهرت سوق الأطفال الكروية بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، حيث يبحث المدراء والوكلاء عن موهبة جديدة بين الأطفال تضاهي موهبة ميسي، ويبرمون صفقات مربحة من ورائهم دون الخضوع لأي رقابة أو ضوابط، مع وجود محاولة خجولة من الاتحاد الدولي لكرة القدم لإيقاف هذه الظاهرة.
يرى خوان بابلو مينيسيس، الخبير في السوق الكروية للأطفال، أن الهاجس في كرة القدم المعاصرة هو إيجاد ميسي جديد، معتبراً أن النجاح في تعاقد نادي برشلونة مع ميسي في الثالثة عشرة من عمره هو السبب في ازدهار ظاهرة التعاقد مع الأطفال، حيث أبدع هذا النادي بشكل مختلف تماماً عن الآخرين في إجراءات التوظيف بين الأطفال، موضحاً أن الأمر يعتمد على شراء طفل فقير من دولة فقيرة بسعر رخيص لايتجاوز بضعة آلاف يورو، على أمل أن تتحول هذه السلعة الرخيصة إلى منجم ذهب.
إن استعمال كلمة بيع أو شراء لا يليق بحق اللاعب كإنسان، خاصة أن عمليات البيع والشراء أصبحت تخضع لمفهوم السوق والعرض والطلب، مثل تجارة العبيد. فإذا كان اللاعب ماهراً ولامعاً يتنافس عليه المقامرون ويتم دفع الكثير من المال لشرائه، أما إذا كان أقل مهارة وجودة فيخضع للتسعير في عملية بازارية في السر أو في العلن.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews