يعيش الانسان متمسكاً بالحياة على اختلاف معتقداته ويقينه بأن حياة أفضل تنتظره في العالم الآخر، لكن عاملاً آخر أُضيف الى حرصه على المحافظة على حياته هذه الأيام، هو خوفه من أن لا يجدوا له قبراً حال موته!! فقد أصبح الموت صناعة وتجارة، وعلى الانسان تخصيص مبلغ مالي قبل وفاته لضمان نقله إلى القبر في ظروف مقبولة برفقة شركة متخصصة.
وكما أصبح بعض الميسورين يختارون بلد ولادتهم فقد يلجأ بعض آخر الى اختيار مكان دفنه، حسبما تسمح به قوانين الدول!!!
في بعض الدول تحولت المقابر الى ما يشبه مدناً صغيرة. مساحاتها موزعة ومخصصة وأعداد القبور محددة لكل عائلة. طرقاتها منظمة، والمعابر المؤدية إلى القبور مقسمة ومرقمة، ولكل ميت عنوان لايخطئه الزائر. ساكنوها الموتى وزوارهم، وبعض المتسكعين والمتسولين والمشردين الذين يتجولون في المقابر، ويعيشون فيها أحياناً، يترقبون وصول أهالي وأقارب المتوفين، ويعيدون رسم العلاقة بين الأحياء والموتى ويخضعونها للتقييم .. الأغلى للأغلى.
تجارة الموت أضحت قضية حاضرة بقوة رغم محاولات الحدّ منها. فالعديد من المحاولات لم تستطع القضاء على تفشّي ظاهرة المتاجرة بالمدافن بسبب ارتفاع أسعار القبور، وكذلك ارتفاع تكاليف الدفن والمراسم المتبعة.
لقد باتت أسعار القبور مشكلة يعاني منها الناس في العديد من البلدان، بدءأً بالدولة صاحبة الرقم الأول بعدد السكان، حيث يفارق الحياة كل عام حوالي تسعة ملايين شخص صيني، وانتهاء بالدول الفقيرة التي يتسبب فيها الجوع والمرض والحروب بعشرات الوفيات يومياً. وتحولت تجارة القبور على ارتفاع أثمانها إلى تجارة رابحة جداً، خاصة اذا ما أضيفت اليها طرق التصميم والبناء وموقع القبر وحجمه وشكل الشاهدة ونوعيتها.
وهناك من وجد في هذا الارتفاع الكبير لأسعار القبور مجالاً للاستثمار عبر شراء قبر وبيعه بعد سنوات، كونه سيدر عليه أرباحاً أفضل بكثير من شراء منزل وتأجيره، فضلاً عن أن موقع القبر وحجمه يلعبان دوراً في تحديد سعره.
وهذا الأمر دفع العديد من المواطنين ليس فقط الى
تفقد حياتهم من حين لآخر ومدى صلاحيتهم للاستمرار على هذه البسيطة من خلال زيارة
الأطباء والمشافي وشركات التأمين على الحياة، بل وإلى تفقّد قبورهم، المحجوزة
مسبقاً، بشكل دوري خوفاً من أن يتم
الاستيلاء عليها من قبل آخرين.
للموت حرمته، وأيضاً للمقابر حرمات لا يجوز انتهاكها في أي حال من الأحوال. فلم يعد مستغرباً أن يذهب مالك قبر ليجد أن الشاهدة قد فقدت عن القبر، ربما بداعي السرقة، لكن الغريب فعلاً أن يتفاجأ مالكو القبور بتهديمها ومحاولة استملاكها أو بيعها بطريقة غير شرعية. والأغرب حقاً هو عدم عثور مالك القبر على أي إثبات يؤكد ملكيته للقبر في مكتب دفن الموتى.
الى جانب ذلك بدأت تطفو على السطح ظاهرة ارتفاع أسعار القبور وأجور حفرها، وتكاليف الترميم والتزيين ومراسم الدفن والعزاء.. الخ ، فضلاً عن بعض الإجراءات البيروقراطية التي لا تأخذ بعين الاعتبار حرمة الميت وضغط الوقت. وطبعاً لا يخلو هذا الأمر من المحسوبيات والرشاوى، والتفريق بين العائلات الميسورة والبسيطة، وأصحاب المراتب الدنيوية المرموقة والبسطاء من الناس.
رائحة الموت ليست زكية.. إلا عند تجار الموت الذين يبحثون عن لقمة عيشهم في أماكن ضاعت فيها كل القيم الانسانية، و كذلك عند تجار الحروب والسلاح، الذين يوزعون القتل والدمار ويستمتعون بمشاهد الدماء والخراب.
المشهد غير المرغوب في عمل حفار القبور هو أنه يستمد عيشه من انتهاء عيش الآخرين، وهو في ذلك يحاكي بعض المهن الأخرى (مصائب قوم عند قوم فوائد). وليس في هذا انتقاصاً من شأن هذه المهنة بحد ذاتها، ولكن في استثمار أحزان الآخرين دون مشاركتهم في "الربح".. فدوره ينتهي مع آخر كمشة تراب تلقى على الميت.
لكن الصورة
الأسوأ هي صورة حفاري القبور الذين لايستخدمون كريكاً ولايذرون تراباً.. تجار
السلاح وأمراء القتل وشركاؤهم، الذين يسلعون أموالهم للاستثمار في قطاع الموت من
خلال شراء الأسلحة وتأمين وسائل الموت الجماعي وارسالها الى من استهانوا بالنفس
البشرية وحولوها الى سلعة رخيصة لأغراضهم الاستهلاكية، مستفيدين من التحريض
والتسويق عبر وسائل إعلام مأجورة، وضمائر "أقلام" منخورة.