news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
قصتي مع الضرائب .. التي لم أدفعها ...بقلم : إبراهيم مسك
syria-news image

- ألم تدفع في حياتك ضريبة الدخل ؟

- لا أعرف مبنى المالية حتى ... ولم أدخله في حياتي ..


 - وضريبة العقارات ؟

 - أية عقارات ؟

  لا يوجد عندي غير البيت الذي أسكنه ، والمكتب و..!!

 

فانفجر الجميع ضاحكين علي ..

 

ثم اكتشفت بعد برهة وبعد أن أفهموني ألف باء الضرائب ، أن هنالك تراكماً كبيراً عليَّ من الضرائب لم أدفعه ، وأنني أمام مبالغ طائلة ستظهر في وجهي ، خصوصاً أننا في نهاية العام ،  ولم يبق للعام التالي (2011)سوى أيام قليلة ، وإن عليّ أن أبادر بالدفع خوفاً من زيادة التراكم والغرامات وغيرها ....

 

كان هذا الحوار الخميس الماضي ..انتظرت حتى صباح الأحد دون أن تغمض عيني طيلة هذه الليالي من الأرق والقلق ، ثم ذهبت صباح الأحد إلى الدوائر التي كان يجب أن أذهب إليها من مدة لا تقل عن ثماني سنوات ..تبرع أحد أصدقائي لمساعدتي ، وأرسلني إلى معقب معاملات "مخضرم" ، فهو يعرف ( دهاليز) هذه الدوائر ، فقبلت ممنوناً لأني فأنا لم أدخل في حياتي دائرة سوى مكان دفع فواتير الهاتف والكهرباء فقط ! وقد زرت البلدية مرة أو مرتين يوم أن اشتكى علي جاري !! وقبلها لم أكن أعرف ماذا يعني "بلدية" ..

 

قدمت الأحد إلى مبنى المالية في الطلياني قبل الموعد بساعة .. فقدم عليّ مشرق الوجه ، يبتسم لي ، فلم استطع مجاملته ولو ببسمة !!

 

أدخلني إلى المكاتب التي يبدو أنه يحفظها عن ظهر قلب .. وبدأ بالمعاملة ..

 

كنت قد أخذت معي كل ما طلبه من الأوراق ، وكذلك هويتي ، وشهادة القيادة ، وجواز السفر .. ومبلغاً كبيراً جداً من المال ،

 

  كنت قد وضعت في ذهني كلّ شيء ، بدءاً من أن ادفع مليون ليرة ، إلى أن أعتقل بتهمة التهرب الضريبي ... خرجت من البيت دون أن أشرب قهوتي مع زوجتي (التي اعتادت أن تشربها من يدي كل صباح ) ، ولم أحصل على قبلات الصباح من أولادي ..وخرجت وأنا متأكد أنهم سيحزنون أنهم لم يروني هذا الصباح ، ولكن الهم الذي جثم فوق صدري أنساني أولادي  ...

 

 جلس المعقب أمام الموظف وتكلم معه لفترة طويلة  .. لم أعر اهتماماً لكل الأوراق التي خرجت ، ولا للمصنفات الكبيرة ، ولا للتواقيع ، ولا لشيء ..

 

 فقد كنت أدعو بسري ألا يصل المبلغ إلى درجة أنهار معها وأضطر لبيع كل شيء من أجلها

 

 ..ابتسم المعقب ثم قال :قم معي ..ذهبت إلى عدة مكاتب ، وعدة أمكنة في جولة دمشقية لم أرى فيها من دمشق إلا المكاتب والمراجعين ومعقبي المعاملات وازدحام الناس .. وفي كل مكان نزوره كان المعقب يبتسم ، ثم يقول : قم معي ..

 

 عند انتهاء الدوام جلست في السيارة أنتظر الخبر ، ابتسم ثم قال لي :

 

- ضرائبك كلها مدفوعة ..!!!!!!!

 

- كم دفعت ؟

 

- لم أدفع شيء .. إنها مدفوعة .. بل ومدفوعة حتى نهاية 2010 !!

 

- كيف ذلك ؟؟ مستحيل !

 

- هذه نسخ عن إيصالات الدفع .. وفيها تواريخ الدفع والمبالغ المدفوعة ، بل واسم وتوقيع

 

من دفع ..

 

- ألا يمكن أن يكون أحد يدفع عني بالخطأ ؟؟

 

ابتسم وقال :

 

- ماذا يقربك "فلان" ؟؟

 

- إنه والدي .. رحمه الله ..

 

- وهل توفي ؟

 

- نعم .. منذ أشهر قليلة ..

 

- مسكين ..

 

- لقد مات شهيداً .. صدمته سيارة في طريقه لصلاة الفجر ..

 

- ليس هو المسكين .. بل أنت !

 

- لماذا ؟

 

- لن تجد من يدفع عنك الضرائب بعد اليوم ....!!!!!!

 

تركني المعقب أمام كومة من الأوراق ومضى ..

 

أمسكت الأوراق بين يدي وفوجئت بتوقيع أبي الذي أعرفه على كل الإيصالات ..

 

تفحصتها ، قرأت التواريخ ، ثم انهمرت دموعي وبدأت أبكي كأطفالي الصغار عندما كانوا يمرون أمام بائع الألعاب ولا أشتري لهم  لعبة .. بكيت اليوم أكثر مما يبكي أولادي ..

 

وتراءت أمامي طفولتي كلها وأنا بين أحضان والدي ..

 

وتخيلت نفسي كيف أنني أكبر ، وأكبر ، وأكبر ..ووالدي ما يزال قربي يرعاني ، وكأنني لم أكبر أبداً ..

 

تخيلت نفسي وأنا المعتد بنفسه الواثق برجولته وقد عدت فجأة طفلاً صغيراً .. طفلاً لا يستطيع مجاراة الحياة دون والده ..طفلاً صار يتيماً بفقد والده ..طفلاً فقد شطر الحياة - إن لم يكن كلها - بفقدان والده ..

 

طفلاً لا يمكنه أن يلعب إلا لم يركّب له أبوه اللعبة .. ولا يمكن أن يقرأ، إن لم يفتح له أبوه القصة ويقرأها له .. كنت أستوقف أبي وهو يقرأ القصة عند كل كلمة ، وكل صورة ، وكل شارة تعجب ..

 

كان يشرح لي كل شيء بصبر وهدوء ، ويستمع لي بأسئلتي الكثيرة المملة ، والفارق بيننا يزيد عن الأربعين عاماً ..!

 

كنت أكبر يوماً وراء يوم ، حتى بدأت أشعر أنني لست بحاجة إلى من يشرح لي القصة ، أو من يركب لي اللعبة ..واليوم ، وقد مضت سنون طويلة ، رجعت فيها إلى الوراء أكثر من  خمسة وعشرين عاماً  أشعر فيها  أنني بحاجة لذلك العملاق ..

 

ذلك العملاق الذي كان وقد تجاوز السبعين يسعى على أولاده ويرعاهم ويحضنهم ويهتم بهم واحد واحد وكأنهم لم يتجازوا سنواتهم الخمس .. كان يتفقدنا ويرعانا ، ويهتم بأدق التفاصيل في حياتنا لدرجة أننا إن لم يشتر لنا حلوى العيد لا يعيّد أبناؤنا .. !!

 

وإن لم يقدم لنا كل شيء فإننا سنبقى أطفالاً لا نعرف ما الذي نفعله ، ونصبح مع أطفالنا في سويّة واحدة نحتاج من يركّب لنا .. هم ألعابهم ، ونحن مفاصل حياتنا ...

 

2010-12-13
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد