منذ سنين كنا نجتمع في بيت من بيوت قريتنا الجميلة وخاصة عندما تنقطع الكهرباء فلم يكن موجود هذا التطور في الشواحن الكهربائية ومن الأشياء المستعملة للإنارة في وقتها كان السراج .. وكنت أجلس أنا ورفاقي مع أصحاب هذا البيت الذي كان أهله مضيافين وبسيطين ويحبون هذه اللمة في منزلهم.
وكانت توجد لديهم فتاة أحبها وتحبني وكنا نحكي القصص مع أصحاب هذا البيت ونتبادل الأحاديث ونتسلى لساعات متأخرة من الليل وعندما نغادر كنت أقف تحت شجرة مقابل بيتها وأنتظر هذه الفتاة التي أحبها حيث كانت تقف على شباك غرفتها وتفتح شباكها وتبدأ تضعف وتقوي ضوء هذا السراج وكنت ألتفت لها وأنا بطريقي للبيت وهي ما تزال تضعف وتقوي ضوء السراج حتى أغيب عن نظرها ..
وكم أحببت هذه الفتاة حيث كان قلبها طيب وبسيطة جداً لدرجة السذاجة وقد أحببت سذاجتها وأحلامها البريئة وحبها لي وحنينها لنلتقي على تلك المروج الخضراء التي كنت أراها فيها وردة تزين الخضار الموجود في الطبيعة وكانت تلون الطبيعة بفساتينها التي تلبسها فمرةً باللون الأحمر ومرةً بالأزرق وكل الألوان تليق بحبيبتي ..
وفي أحد الأيام ونتيجة لظروفي المادية الصعبة قررت السفر لتأمين مستقبلي ومستقبلها وحتى أكون قادراً أن أطلبها من أهلها وبينما كنت أجلس معها على ضفة النهر وضوء القمر ينير المكان صارحتها بالموضوع فلم تصدق وظنت أني أمزح معها وعندما أكدت لها رغبتي بالسفر أخذت تبكي وضمتني إليها وقالت أرجوك لا تسافر فأنا أرضى أن أعيش معك على الحصيرة ومستعدة أن أقف بجانبك قدر إستطاعتي ولا أطلب منك إلا أن تكون بجانبي ولا أريد أي شئ آخر فأنت تعرف كم أحبك ولو طلبت مني الموت سأموت من أجلك وعندها إنهمرت دموعي على كتفها وتأثرت بكلام أغلى إنسانة في حياتي ولكن تماسكت وأبعدتها عني ونشفت لها دموعها بيدي فقبلت يدي وقالت لي ألن تعود عن قرارك فقلت لها بداخلي إحساس بأن الأيام القادمة ستكون صعبة علينا والتطور سيصل إلى قريتنا وسيغير نفوس أهلها وحتى قريتنا ستتغير وظروف المعيشة ستكون صعبة ولابد أن نكون جاهزين لتلك المرحلة وأنا أريد أن نعيش بأمان ومن دون الخوف من المجهول ومن المستقبل.
فقالت لي كم أخاف عليك من السفر ومن أن تتغير وأن تجد من تنسيك حبيبتك وتنسيك قريتك فقلت لها أيتها المجنونة سأبقى أحبك طالما أنت في عالمي مسجونة ولن تجعلني أنساكي نساء الأرض كلها وستبقين أنت وسراجك نور ينور لي طريقي ويهديني في سفري .. وفعلاً سافرت وكنت أبعث لها الرسائل بإستمرار لكي تطمئن علي وهي أيضاً كانت تراسلني وتحدثني عن إشتياقها لي وحنينها لرؤيتي ..
وبعد فترة إنقطعت أخبارها ولم أعد أعرف إن كانت تصلها رسائلي ولم يكن يوجد وسائل إتصال في قريتنا وبدأت أفكر ماذا حصل لها ولماذا لا تصلني رسائل منها وكان قد مضى على غربتي سنين فقررت العودة وإكتفيت بما جنيت من مال وعدت وأنا أحمل لها الكثير من الأحلام التي أريد تحقيقها بقربها وقد وفيت بوعدي إتجاه حبنا وإخلاصي لها ..
وعندما وصلت إلى القرية وقت مغيب الشمس ذهبت إلى بيتنا الذي كان بأول القرية وسلمت على أهلي وخرجت مسرعاً للقرية وعندها أحسست أني أشم رائحة تختلف عن الرائحة التي كانت تتميز بها القرية بالهواء النقي واللطيف ولم يعد ذلك الإحساس بالهدوء والطمأنينة موجود وأحسست بالخوف وقد كانت الشمس قد غابت حينها فأخذت أركض لبيت حبيبتي وأنا أتأمل رؤيتها بفارغ الصبر ورؤية سراج غرفتها وعندما وصلت لتلك الشجرة التي أمام بيتها والتي كبرت مع مرور السنين ونظرت إلى غرفتها فوجدت ضوء غرفتها يشعل وينطفئ وهي تلوح بيدها من شباك غرفتها لشاب كان يقف على شباكه المقابل لشباكها ومن صدمتي جثيت على ركبتي وأنا لا أصدق ما أرى فهل هذه هي الفتاة الساذجة التي أحببتها والتي بكت عند رحيلي ودموعها مزقت قلبي وقتها؟
وهل هذه هي الفتاة التي تغربت لأجلها سنين لكي تكون سعيدة معي ولا ينقصها شيء وكم أوصتني أن أبقى على حبها ولا أنظر لفتاة غيرها ولا أتغير وأن أبقى عهد الذي تحبه وتحب عالمه الذي سجنتها فيه قبل سفري فأين أنت أيها السراج فقد إستبدلتك بضوء الكهرباء وقد تماشت مع التطور الذي خفت منه وكلمتها عنه قبل سفري فقد تغيرت القرية بالكامل وحتى هي تغيرت ولم تعد ساذجة وحتى أحلامها تغيرت وحبها غيرته تماشياً مع التطور فأنا أصبحت تاريخاً قديماً في حياتها وربما أصبحت ذكرى أليمة لا تريد أن تعيدها ولا تريد أن تعيد تلك الأيام البريئة وتلك اللقاءات الوديعة وحتى ضوء القمر إختلف عندها والمروج أصبحت يابسة من خيانتها ولم تعد تلك الوردة التي كانت تلون الطبيعة بفساتينها.
وأصبحت بالنسبة لي أصعب من الغربة ولم أعد قادراً أن أتصور وجودي حتى بقريتنا إلا بعد أن أسمع أنه جاء نصيبها وغادرت القرية لأن وجودها في القرية أصبح يشوه جمال قريتنا ويلوث جوها اللطيف وقررت السفر خارج القرية لأن عذاب الغربة أسهل من عذابي وأنا موجود في القرية مع ذكريات إنحفرت في قلبي وفي بالي مع من هان عليها كل شئ وأصبحت هي وسراجها ذكرى من ذكريات سراج الحب الساذج ..