جذبتني المقالة عندما لمحت الصحيفة، وجلست أقرأ لقتل الزمن ريثما ينهي الكهربائي تفحص التلفاز أولادي يلحّون عليّ كي استبدله، وأنا أعذرهم، كيف تطلب من إنسان تفهم أحداث لم يعشها، خالد يضحك حين أذكّره بأنّه من عمره، اشتريته قبل عام من نهائيات كأس العالم التي أقيمت في الأرجتين.
يقول لي: بأنّ زمن الأبيض والأسود انتهى إنّه زمن الألوان، وليتهم يدركون بأنّ زمن الأبيض والأسود هو زمن الصدق والإخلاص، زمن لا رياء فيه، لا مداهنة، ولا تطيب خاطر، وأنّ زمن الألوان زمن الزيف والخداع، الجنون والمناورات، ولكن عبثاً، ربما يأتي يوم ويتغيّرون، كما تغيّرت، ومثلما تغيّرت وفاء بعد مقتل سحر. ولشد ما أدهشني، حين رأيتها صباح اليوم كأنّه السحر، أكثر من شهر مرّ على تغيّرها، أصبحت حسناء الوجه، نجحت أخيراً في القضاء على الحبوب والندبات التي خلفها الحَبَُّ في وجهها.
في هذا الصباح رأيت لوحة بالأبيض والأسود تزين شاشة الحاسوب وحين سألتها قالت: بأنها لوحة بحثت عنها كثيراً، وجدتها في الشبكة العنكبوتية، إنّها لوحة جورنيكا لبيكاسو، وأنّه رسمها عام 1937م، بعد أن قصف طيران الدكتاتور الاسباني فرانكو قرية صغيرة في إقليم الباسك، وقضى على عدد كبير من سكانها وقد أصبحت تلك اللوحة رمزاً عالمياً لتصوير أهوال الحرب، ووظّفت من قبل المناهضين لحرب أمريكا على العراق.
ثم شرحت لي التزام بيكاسو باللونين الأبيض والأسود مع درجات متفاوتة من اللون الرمادي، وتجنّب الألوان الأخرى كالأحمر والأصفر والأزرق مع أنها أكثر قدرة للتعبير، لإبراز الوحشية والقسوة، ثم شرحت لي رموز اللوحة وقالت بأنّ الثور يرمز لوحشية فرانكو والحصان الجريح يرمز لألم اسبانيا وسلط ضوء المصباح على الأعضاء المشوهة لتكثيف الإحساس بفظاعة الحرب، فالرأس التي تصيح والذراع التي تحمل المصباح يشيران إلى الضمير البشري الذي يلقي ضوءاً على هذه المأساة ويلومها.
توقفت متأملاً اللوحة، و سألتها عن سرّ اهتمامها بالرسم والألوان، فقالت بأنّها كانت تعرف رساماً هاجر إلى أمريكيا . فقلت لها وأنا أتألم، هذه اللوحة التي تصف الهجمة الهمجية التي استمرت لثلاث ساعات متواصلة، احترقت فيها المدينة ثلاثة أيام متواصلة وكان عدد الضحايا ستة عشر ألف مدني بين قتيل وجريح، تعتبر كأذن الجمل حين نقارنها بوحشية إسرائيل التي قصفت لبنان لثلاثة وثلاثين يوماً، وكنقطة دم من بحيرة خلفتها فظائع أمريكيا.
- ألن تتخلص منه يا سيدي؟.
سألني الكهربائي وهو يتفقد الجهاز. فقلت :
- إنّه أول تلفاز اشتريته.
- عزيز عليك .
- أشم فيه رائحة زوجتي المرحومة.
صمت الكهربائي، وهو الذي يعرفني منذ سنوات لما كنت في الخدمة. وتابع عمله بصمت مكتفياً بالترحم عليها.
بعض الشحوم و أثار القطع الالكترونية لطخت الصحفية القديمة، ولكن لم يمنعني ذلك من ممارسة هوايتي المفضلة والتي دفنت تحت أنقاض الحياة الروحية التي دمرتها الحرب البشرية المتكالبة على المادة. اتفق مع الكاتب في المقالة التي رسمها، وأقرّ بأنّها جميلة، ولكن حتماً أختلف في الانطباع التي خلفته في النفس هو أرادها رمزاً ، إسقاطا لواقعنا, أنا فهمتها ايقاظاً لمشاعرنا العاطفية .حتماً هناك أسباب غير مباشرة ساهمت في فتح قلعة النفس التي أعلنت العزلة، منذ اندلاع الحرب ضد الاستهلاك والمعيشة، والتي أفرزت تنكر النفوس للحب والوفاء.
المقالة تتحدث عن (هيلين) ملكة إسبارطة، أجمل امرأة في اليونان، والتي أقسم جميع كبار القوم في اليونان على حمايتها، وحماية زوجها، والوقوف معه إذا أصابها مكروها. وتتزوج هيلين من مينلاوس شقيق أغامنون بن اترويوس، و التي تهرب مع باريس ابن بريام ملك طروادة . وتبدأ حرب تستمر عشر سنوات، من أجل استرداد هيلين. وهذه بداية حرب طروادة المشهورة في تاريخ الأدب اليوناني التي عرفناها من خلال ملحمتين شهيرتين، الألياذة التي روت أحداث السنة التاسعة والأوديسا التي حكت عن الكثير من الأحداث السابقة للحرب . كاتب المقال استطاع بحذلقته إسقاط هذا لما يجري من أحداث وزمن نشر المقال يعود إلى عام 2002، بداية الطغيان الأمريكي. أي قبل أربع سنوات تقريباً.
أوقفني في القصة باريس وليس غيره، وهنا سرّ حبي للمقالة . باريس ابن ملك طروادة تنبأ الكهان، بأنّه على يديه سيتم دمار مملكته، لذا أمر الأبّ بالتخلص من باريس . ولكن القدر يمنع قتل باريس ويجعله يرعى الغنم فأصبح أسمه الأمير الرعوي. ولا أدري كم هي المدة التي مكث فيها باريس يرعى الغنم، حتى جاءته أفروديت، وهيرا وأثينا، الآلهة الثلاثة ليحكم بينهن، بأمر من زويوس كبير الآلهة، من منهنّ الأجمل لتأخذ الأجمل التفاحة الذهبية، والتي كتب عليها، هذه التفاحة للأجمل .
أثينا آلهة الحكمة والقوة والحرب وعدت باريس بالحكمة إن أعطاها التفاحة. هيرا ربّة الزواج أغوته بالسلطة وبأنّها ستجعله سيد أوربا، أمّا أفروديت آلهة الحب والجمال وعدته بتزويجه من أجمل بنت في اليونان، فأختارها باريس ومنحها التفاحة، أخذته أفروديت إلى إسبارطة كضيف، وعرّفته على أجمل امرأة في اليونان، هيلين طبعاً، وهربت هيلين مع باريس، ونشبت الحرب. وكانت نبؤه الكاهن رغم أنف والد باريس .
التفاحة الذهبية شرارة الحرب، لو لم يختار باريس أفروديت، لما حصل ما حصل، وأتساءل هل أفروديت أجمل الثلاثة؟ أم أختارها لأنّها وعدته بالزواج من أجمل امرأة؟. أم لربة الشقاق إيريس دوراً؟ حين لم تدعى إلى حفل زفاف بين الآلهة كما تقول الأسطورة، ويبدو بأنّ الآلهة كانت مدعوة لمباركة الزواج، لذا حضرت ربة الشقاق ومعها التفاحة الذهبية، ورمتها، فتنافست الآلهة عليها، لمعرفة من الأجمل، وكان قرار زويوس بالحكم على من يقرر ذلك باريس.وحدث مع حدث .
الأساطير والملاحم اليونانية والمبنية دائماً على صراع البشر مع القدر، تظهر قهر الإنسان، ولابدّ للقدر أنّ يصيبه. ومن شروط الإيمان، الإيمان بالقدر. وأنا مؤمن بقدري.
الشاعرة فدوى طوقان تقول في إحدى قصائدها الحديثة، لو بيدي لأغسل قلوب إخوة يوسف، وكلّ واحد منا، ولكن للكون ناموسه، صراع الخير مع الشرّ، للشرّ جولات ولكن لا بد أن ينتصر الخير.
وطوال تاريخ حياتي، وعملي كضابط في الشرطة ، وحتى بعد تقاعدي وقبولي العمل في هذه الشركة الصراع لم يفارقني، عرفت أنواع لا تحصى من الجرائم، مجازر وحشية، كانت بسبب أو بلا سبب، التاريخ يشهد مذابح لا حصر لها، ولكن أفظعها وأكثرها بشاعة تجدها بسبب امرأة، وتكون هي الضحية، لا يهزني قتل الرجال ، ولكن قتل النساء واغتصاب النساء يصيبني بالجنون، وأشدّ ما يؤلمني حين أقرأ جريمة قتل امرأة ، وكأنّه لا يكفي عملي في سلك الشرطة حتى اصطدم اليوم بجريمة أخرى ضحيتها امرأة، عانت الكثير، وأشعر بأنّي مطالب بالكشف عن القاتل، وحسب خبرتي القاتل يعرفها جيداً، وإلا كيف تنفذ الجريمة في بيتها؟ ولا أظنّ بأنّ القاتل عصام، فذاك شاب دمر نفسه حين بدأ بتناول الحبوب المخدرة، لو اغتصبها وإن كانت عمته لكنت صدقت.
وأنا الذي عرف جرائم اغتصاب فاعلها أقرب المقربين للضحية، ولكن عصام الذي تدور حوله الشكوك كما قال لي المقدم حسن رئيس النيابة والذي كان عنصراً نشيطاً في إدارتي حين كنت مديراً لناحية أخترين التابعة لحلب، قال بأنّ عصام الذي أبلغ عن مقتل سحر انعزل في غرفته وأضرب عن الطعام. وأنّه الآن بين الموت والحياة.
لن يفارقنا الصراع حتى الموت، فالصراع بين الخير والشرّ سيبقى طالما هناك حياة، وجسمنا الذي نسير فيه الآن، لا يتوقف الصراع فيه، الملاين من الأجسام الغريبة يقتحمها فيتصدى لها بالجسم بأسلحته وجنوده من الكريات البيضاء تقاتلها وتطردها. وحين تفشل يظهر المرض ويكون النصر للشرّ فتفارق الروح البدن. أو الفوز لجنود الجسد فيتعافى الإنسان.
تنهد الكهربائي وقال يائساً:
- أعتقد بأنّ الجهاز لن يعمل. انتهى أجله، ولكلّ شيء أجل.
حملت التلفاز ماركة سيرونكس ذي الأربع وعشرين بوصة بجهد، وعدت إلى بيتي، سأحفظه في خزانة ملابسي التي فقدت كل أثر من زوجتي، التي رحلت وتركت لي خمسة، ثلاث بنات وصبيان، تزوجت الصغيرة البارحة، ولم يبق لي في البيت سوى صلاح . الذي يستعد للسفر إلى ألمانيا لمتابعة دراسته.
يرحمك الله يا بهية، الزوجة الغالية ، التي عاشت معي سنوات التعب والجهد ثم رحلت قبل أن تقطف ثمار تعبنا، حين توفيت فجأة وهي تلد صلاح، ليتك حية الآن، وترين زنيب وأولادها الأربعة، وخولة صاحبة التوأمين، وخالد الذي أضحى أباً لإبراهيم الجديد، سماني أبي لمحبته للزعيم الوطني إبراهيم هنانو.
حين ولدت بعد الجلاء بعام ، وكان سبب دخولي سلك الشرطة مع بعد دراستي للحقوق، كان والدي يقول: بأنّ المحاماة مهنة الرجال الشرفاء، وأنّ المحامي الشاب فتح الله صقال أنقذ الزعيم الوطني من حبل المشنقة في مرافعته الشهيرة، وأنّ دوري هو المساهمة في تخليص الوطن من الأشرار، فبعد الاستقلال كثر النقاق، وهم المجرمين الذين يجب التخلص منهم.
ورضخت رغم حبّي للتاريخ، وكم كنت أتمنى أن أكون مدرساً للتاريخ، ولكن كيف أقنع أب عاصر الاحتلال وعاشر الثوار، وولد له ابن بعد الجلاء؟ بأنّ التاريخ يكتبه الأقوياء، ويلزم لذلك رجال أقوياء. كان يحكي كثيراً عن إبراهيم هنانو، الذي ولد في كفرتخاريم، ودرس الحقوق في استنابول، وتنقل في مناصب إدارية من مدير ناحية في استانبول، إلى قائم مقام ثم قاضي تحقيق ورئيس ديوان ولاية حلب لعامين ، وممثل حلب خلال عامين 1919 و1920 ولجأ لجبل الزاوية لقيادة الثورة ، وكيف حكم عليه أربعة أحكام إعدام غيابية، وكيف رافع عنه المحامي فتح الله صقال بعد أن قبض عليه، وكانت أول جلسات المحاكمة في الخامس عشر من آذار عام 1922 ونال البراءة حين اعتبر القاضي الفرنسي بأنّ ثورته سياسية مشروعة
- هل تم إصلاح العطل؟
- لا.
رمقني صلاح بابتسامة، ثم قال ممازحاً:
- أدفنه.
لم أجب، دخلت غرقتي، فتحت الخزانة، وضعت التلفاز مكان ألبسة بهية التي اختطفها بناتها بعد يوم من وفاتها، ثم عدت إلى عزلتي، أفكّرُ بقاتل سحر.
&&&
(1) فصل من رواية جديدة .