(1) الصورة الفوتوغرافية أفضل من شريط سينمائي
التعب الشديد الذي حلّ علي فجأة، منعني ذلك اليوم من الاستحمام وفور وصولي البيت، رميت نفسي على السرير ونمت .
زارتني سحر لأول مرة، ولأخر مرة في المنام . قرعت الباب، فتحت لها، أمسكت بيدي وأدخلتني الحمام نزعت ملابسي ثم أمسكت بيدي وهي تقول::
- ألم تقرئي الخواطر؟
- لم أجدها.
- لأنك لم تبحثي عنها.
- كيف أجدها؟.
- فكّري بها وستجدينها.
- ولكن الحاسوب الذي كنت تستخدمينه تغيّر، وحين سألت عنه قالوا بأنه تم تبديله.
- وهل تظنين بأنّي تركتها على الحاسوب؟
- ماذا تقصدين؟
- طبعتها وهي محفوظة كأوراق في محفظتي القديمة.
- أين أجدها؟
ضحكت ضحكتها المعروفة، ثم همست في أذني:
- أجلسي، وقتي ضيق، جلبت لك ماء من السماء، سيخلّصك من وسيم، ومن هذه الحبوب التي تشوه وجهك.
سكبت على رأسي من زجاجة غريبة، كان الشيء المسكوب رطباً وبارداً ومنعشاً كأنّه النعناع، ثمّ ابتسمت وهي تقول:
- ولكنّ أنفك سيبقى كما هو .
اختفت، فنهضت فزعة لأكتشف بأنّ الفجر قد بزغ، أسرعت نحو الحمام، تفحصت وجهي في المرآة، كانت المفاجأة تنتظرني، الحبوب صغرت وبعضها اختفى، تلمست بظهر يدي الأيسر كما كان يفعل وسيم وهو يهمس: اللمس حاسة عظمية، وظهر اليد أرق من راحته، واليد اليسرى أفضل لأنّها أقرب للقلب، لذا هي التي تشعرك بخطر القلب وتدهوره. كانت الحبوب الكبيرة قد تقلص حجمها والصغيرة، اختفت. هل كان صادقاً؟ حين قال بأنّها تًظهر نقائي. وستذهب يوم ذهاب النقاء. وتذكّرت المدير، كيف لم أنتبه إليه قبل هذه المرّة، هل وجد المحفظة كما تقول؟ هل عرف القاتل؟
وفجأة اكتشفت بأنّه هو أيضاً مجروح، أرمل، فقد زوجته حين وضعت طفله الخامس. ولم يتزوج بعدها، مخلّص لها، لا شك هو الآخر يعاني من العزلة، كانت صوره تمر في رأسي كشريط سريع لم أقدر على التركيز، فقط البارحة، كانت صورته التي انطبعت في ذاكرتي قوية جداً، تفاصيلها مهيبة جدا.ً الآن أدركت سرّ تلك النظرة، حين وقف أمام الباب ونظر إلي، رأيت فيه قسوة العزلة كالتي أراها في نفسي وفي سحر، قال وسيم بأنّ الصورة الفوتوغرافية أفضل من الفيلم، فهي تملك أبعاداً لا تملكها السينما، فهي تملك الماضي والحاضر والمستقبل، بينما الفيلم يملك الحاضر فقط ، لا تقدر أن تتوقف عند زمن معين، وأنت دائماً تنتظر اللقطة التي تليها. ولهذا تكون اللوحة أهم من الصورة حيث تجمع ميزاتها مع نقل الروح لها، روح الفنان.
يعاني قسوة العزلة، كسحر وكوفاء، يا لحرف الكاف ؟.. أتذكّر لوحة وسيم عن حرف الكاف، كان حلم وسيم أن ينهي رسم الحروف كما رآها ابن العربي، وأتذكّر بأنّ لوحة لحرف الكاف كانت مختلفة، لم أفهم منها شيئاً، كان قد رسم خطوطاً تشبه تضاريس بلادنا، يشطرها حرف الكاف، شرقها أكثر نوراً من غربها، والأشكال التي في يمين اللوحة تجد ظلالها متماثلة، وغربها الأشكال تختلف عن ظلالها، وقال لي بأنّ ابن العربي يرى هناك اختلاف في هذا الحرف الذي يُستخدم للتشبيه. بين مقتنع بأنّ المشبّه يشبه المشبّه به بصفاته وذاته، وبين مقتنع بأنّ المشبّه يشبه المشبّه به بذاته فقط. ضحكت سحر حين قلت لها عن أسرار حرف الراء أخر حرف من اسمها. وقالت لا تفهم هذا الكلام . ولكنها تعتقد ذلك صحيح، كانوا يُشبهونها بغفران، العاملة التي كانت قبلها، ولكنّها مختلفة عنها كثيراً.
اغتسلت ، ومن ثم صليت ركعتين، ولم أجرؤ النظر إلى المرآة ثانية ، وتمددت على السرير، ولم أجرؤ على تلمس وجهي، وصوت المدير لا يبرحني، آنسة وفاء أنت مختلفة عنها. وبدأت صورة المدير المنطبعة في ذاكرتي تكبر، وبدأت تأخذ حيّزاً كان مخصصاً لوسيم، رباه هل ما زلت أحلم؟.. إن كان حلماً أتمنى أن لا ينتهي. وعدت أفكر برؤية سحر في المنام؟
حين ماتت أمي، أعارني مهدي كتاباً عن الروح لابن القيم الجوزية ، وذلك حين رويت له رؤية أمي في المنام بعد شهر من وفاتها وقالت لي كلاماً طيباً، قالت بأنّها تعيش في أرض طيبة أين تضع يدها تجد ماء زمزم ينبع. كان ذلك حين ختمت القرآن الكريم وأهديته لروحها، قصصت الرؤيا على سحر، فتشجعت وقالت بأنّها حقيقة، وأنّ رب العاملين قبل نيتها.كانت أمي عازمة على الحج في السنة التي توفيت فيها. وحين أنكرت لها متأثرة من وسيم الذي كان يعتقد بأن الميت ينتقل إلى عالم أخر لا يمكن أن يعود منه، مثلما نحن لا نستطيع العودة إلى بطون أمهاتنا. وما الدعاء الذي نرسله لهم إلا مثل الرسائل التي نبعثها ولا نعلم إن كانت تصل فهي رسائل نكتبها لأنفسنا. ضحكت مني وقالت :
- أما هذا أخالفك به، وكان عصام ابن أخي مثلك حين كان شيوعياً، ولكنّه تغير. مهدي أقدر شخص هنا لتفسير ذلك .
طلبت مهدي فدخل، وقصصت له الرؤيا. ابتسم وقال بأنّه منام يدل على حسن حال الميت . وحين أخبرته سحر بأني لا أعتقد ذلك ، صمت، ثم خرج، ثم عاد بعد دقيقة، وبيده كتاب أحمر اللون. وقال لي :هذا الكتاب سيغيّر رأيك. كان الكتاب عن الروح لابن القيم الجوزية. كنت قد سمعت بهذا الاسم عند وسيم، كان عنده كتاب عن التصوف اسمه مدارج السلوك. وأمضيت أسبوعين في قراءة الكتاب، ذكر في الكتاب عن معرفة الأموات بزيارة الأحياء، وأنّهم يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأفعالهم. وأشد ما تأثرت بقصة وصية ثابت بن قيس رضي الله عنه الذي استشهد في المعركة التي تم فيها قتل مسيلمة الكذاب، فقد نفذت وصيته التي قالها بعد أن مات.
وبدأت استعجل الساعات للوصول إلى الشركة وطلب الكتاب من جديد من مهدي. لا شك بأنه يحتفظ به في مكتبته الصغيرة التي خصص لها مكاناً في البوفيه.