كنت أتصفح موقع سيريا نيوز مؤخراً وقرأت مقالة عن قرار لوزارة المالية بتخفيض نسبة الضرائب المفروضة على الأعمال الفنية والدرامية المنتجة محلياً والتي يتعاقد على شرائها التلفزيون السوري. لم أرَى المقالة فيما بعد و لا يهم التفاصيل ولكنني أتذكر تذمر القرّاء الآخرين عن هذا القرار وكيف أن الممثلين يتقاضون مبالغ باهظة وما إليه من تعليقاتهم الانفعالية وغير المدروسة.
و الآن لننظر إلى مقالة أخرى حديثة في نفس الموقع تخبرنا بأن العجز التجاري- رسمياً- بلغ 225 مليار ليرة سورية عام 2009 - والله يعلم كم سيبلغ عام 2010 وما بعد – و هذا يعني أننا لا نصدّر إلى العالم الخارجي من سلع و خدمات أكثر مما نحتاج إليه منهم. ولأننا دولة من المغضوب عليهم أمريكياً ومن ثم دولياً بسبب مواقفنا القومية المعروفة فلا تتوقعون خيراً بالحصول على معونات دولية من صندوق النقد الدولي والمؤسسات العالمية الأخرى لتحل مشاكلنا الاقتصادية كما هو الحال بالنسبة للمملكة الأردنية. والحلّ هو بالاعتماد على الذات ما أمكن وما حكّ جلدك مثل ظفرك.
لا أخفيكم سراً بأن لدي ولدين في عمر الشباب أكبرهم قليل المروة (بالعامي) وحاولنا تحسينه من ناحية العمل والدراسة ولكن فالج لا تعالج. وبالنهاية أمنّا له وظيفة كي يعمل بها ويعيش منها مستور الحال. أما الأصغر فهو شعلة من الذكاء والاجتهاد والحركة وأراد أن يكمل دراسته العليا في الهندسة المدنية في أوروبا فقمنا بشد الحزام ووفرنا له الغالي والرخيص كي يحسن من مستقبله ويعود الخير عليه أولاً ولاحقاً علينا. فبميزان العدل أخذ الصغير أكثر من حصة الكبير بكثير ولكن الصغير لديه إمكانية نجاح مستقبلي لا يمكن الشك فيها من حيث أنه قد أنهى دراسته الجامعية بتفوق واضح حتى الآن (دقوا على الخشب).
تتساءلون الآن ما الرابط بين هذه المواضيع المذكورة. الرابط أن أصحاب القرار في الحكومة أصبحوا يفكرون بمبدأ ما كل أصابع يديك مثل بعضها وهذا شيء ممتاز وطال انتظاره. حيث أنهم يحفزون القطاع الذي لديه القدرة على النمو المستقبلي والذي يمكن أن يوظف أشخاصاً منتجين والذي لدينا فيه ميزة تفضيلية. حيث أن الدولة السورية بمواردها الاقتصادية المحدودة عليها أن توجه الدعم حين ينفع. وإذا كانت بعض الوحدات الإنتاجية للقطاع العام في حالة من الموت السريري فمن الأولى قطع الأوكسجين وتحويله لمن له أمل بالبقاء. قد يبدوا هذا قاسياً بعض الشيء ولكن على الجميع أن يدرك أن الأوقات تغيرت و أن لكل مجتهد نصيب.
ألم تروا كيف زاد الإنتاج الدرامي السوري كماً ونوعاً وأصبح حاضراً دائماً في جميع الفضائيات العربية وهذا يدر عائد مادي جيد وبالعملة الصعبة (أي مثل تصدير السلع) على الاقتصاد السوري. لدى سوريا سوق فضائي يمتد من المحيط إلى الخليج بالإضافة إلى بلدان المهجر كي يتم بيع الإنتاج الدرامي السوري لهم. هذا القطاع أصبح لاعباً أساسيا من حيث أنه::
أولاً: يدعم تواجد الثقافة السورية في كل بيت تصله نطاقات البث التلفزيوني، أصبح العالم العربي يعرف الكثير عن المجتمع والثقافة السوري مقارنة بالفترات السابقة التي هيمن فيها الإعلام المصري على العالم العربي. إن هذا يفتح المجال لدخول الأفراد السوريين بسهولة أكثر في المجتمعات العربية الأُخرى وهذا أفضل من الانغلاق حيث أن الإنسان عدو ما يجهله.
ثانياً: إنّ تصوير معظم المسلسلات في سوريا يساعد وزارة السياحة من حيث توفير خطة ترويج سياحي لأماكن تستقطب السياح من دون أي تكلفة من قبل الوزارة. هل تذكرتم الضجة الكبيرة حول مناطق تصوير ضيعة ضايعة في (قرة دوران أو السمرا). بإمكان وزارة السياحة الآن أن تنفق ميزانيتها على الاحتفاظ بالسائح عن طريق تحسين الخدمات المقدمة للسائح و تدريب ورقابة أصحاب المرافق السياحية.
ثالثاُ: يتاح لهذا القطاع توظيف العديد من الأفراد السوريين فإذا نظرتم إلى العدد الكبير من المهن والوظائف التي يوفرها هذا القطاع وكثير منها أصبح بما يسمى بالعمالة الماهرة والمتخصصة. هذه العمالة التي تنتج "قيمة مضافة أعلى" عن كل ساعة عمل مقارنة بغيرها من العمالة غير الماهرة أو العمالة الفائضة في القطاع العام.
هذا القطاع وبعد أن أثبت تواجده على الصعيد العربي في قطاع الدراما للبالغين، يجب أن يفكر القائمون عليه الآن بالانتشار العمري. لا أذكر أنني شاهدت أو سمعت بمسلسل سوري للأطفال أو الناشئة. هؤلاء الأطفال سيصبحون بعد عدة سنوات بالغين و سيتابعون المسلسلات الدرامية فإذا تعودوا على البرامج السورية أصبحوا من المتابعين لها لاحقاً. إن دخول بعض الدول العربية الأخرى على الخط بالنسبة للفئة العمرية هذه سوف يعقد من حسابات صانعي الدراما السورية في المستقبل. قد يكون العائد المادي لهذه الأعمال أقل في الوقت الراهن ولكن عدم استثماره سيعود بعواقب وخيمة في المستقبل على هذا القطاع و على الاقتصاد السوري ككل.
الاستثمار بالمستقبل هو ما يجب على الحكومة وقطاع الأعمال و الشعب السوري ككل أن يقوموا به.