أنا الحائر كي أنظِّم قافيتي ... تلوكني الألسن ... والليل الطويل يجتاح ذاكرتي... فتضمحلُّ ابتسامتي ويصبح الفرح بقايا سرابٍ ...
طريق العودة يؤرقني ... يزعزع كياني ... يزلزلني ... وكالسكين يغوص في أعماقي والروح يسلبني ... وها أنا أعود عارياً من ذكرياتي الحميمة وعلى هامش الدرب تنتشر بقايا أفكاري ... أغصاني عطشى وأوراقي الخضر تنتظر اليابس ...
يغمرني ليل الأسى ...يبعثر أشلائي ... تجتاحني العتمة الحالكة ... لكن وحده صوتي يبقى يمزق ستار الصمت ... رغم أنف كل العيون المختبئة خلف الستار القديم المكسو بغبار النسيان ... لست ادري مرغماً أم مختاراً أمشي فوق الأشواك المتناثرة في الدروب ... يسيل دمي ... فأحاول أن أرسم به خيط أمل أتبعه أم أسحبه خلفي لست أدري ... لست أدري ... أغمض عينيَّ وتبقى يدايَ تتذوقان بعشق ألم الجراح ... وأغرق في معادلة التساؤلات ... هل يكون وجه الغد عابساً أم ضاحكاً كأطفال العيد ... وهل يبقى الحلم أسير ليلة دافئة تغتاله سكين الحقيقة ... وعزاءٌ وحيدٌ يتبقى ... فرغم طغيان السواد فخيط نورٍ دقيقٍ يمتلك سحر النفاذ والتسلل وسط العتمة لتبديد جيوش الظلام ...
ضجيج العواصف في الخارج يصمُّ الآذان ... والجمرة اليتيمة أخذت تودع وهج الاحمرار ... طوفان حزنٍ يغرق تلال الأحلام ... يجرف في دروبه بقايا الحكايات ... والغضب سيد الألعاب ... وصفير الريح أنشودة رعبٍ تأتي على ما تبقى من طقوس النهاية ...
تعلمت في رحلتي الكئيبة كيف أسير بين السطور الحزينة ... أفتش في كل الطرقات المتشعبة عن ذاك المصير الهارب مني في مختلف الحانات...
تعلمت كيف أقصقص جوانحي من غير شفقة ... كي لا تغريني ذات مرَّة بمحاولات الفرار من ذاتي أو إصدار يمين الطلاق على آهاتي ... فقد صار سيانٌ أن يجرَّ المركب ربَّانٌ ... أو يعبث بالجنبات هدير أمواجٍ ... فالبحر الصاخب ... رغم المدى ... بات يضيق بثقلِ أنفاسي ...
تعلَّمت أن أنثر فوق الطريق كلَّ ذكرياتي ... وأن أتخلَّص من صور ذكرياتي . وأن أمحو ذكرياتي وأطمس كلَّ التخيلات قبل أن ألجَّ إلى قصر السجَّان ...
تعلَّمت كيف أؤجِّلَ كلَّ مشاريع العمر إلى أن يأذن لي أمير الجان ... أنا التائه في غربة الأيام ... أحصيها ... فتغلبني بوطأتها الثقيلة ... يشتاق فؤادي طعم المسرات في زحام هذا العالم المر ... يهاجمني وحش الصمت من غير مواسم أو مواعيد ... فتحتال عيوني لإرسال ترجمان الأحاسيس ... خلسةً ... حين تستحيل الحروف والكلمات ... يهرب الفرح مني ... ويتوه في الأزقة الضيقة ليصير فارَّاً من وجه الفؤاد ... ومع كلِّ عيد يأتي ... تسارع زوبعة حزنٍ لامتلاك فسحتها الشاسعة في الأعماق ...
تتأخر أمطار الشتاء ... فتموت تلك النبتة المسكينة في العراء ... وفي ليلٍ متأخر ... أعود ... أعود إلى دياري ... أنفض عن كاهلي غبار أسفاري ... أحاول ترتيب ما تبقى من أفكاري ... أسارع للحاق بأيامي ... أستعير بعض الأرقام لإجراء معادلاتي وحساباتي ... أبحث بلهفة عن مصباح الزيت القديم ليبدد غيمة السواد ... أتلمَّس طريقي ... أغتنم فرصة وجود طيف النور فأدنو من الساعة المعلقة ... أمسحها بعناية ... لكن تتجمَّد عيوني في محاجرها حين أتأمَّل عقربي الساعة المحطمين وهما يقبعان في السفل بلا حراك ... فأدرك حينها أنني رغم كلِّ ما تعلَّمت وتعلَّمت ... لكن ما علمت أبداً ... أنَّ الزمان سيافٌ ... يجز الرؤوس قبل الأوان ...