بيضاءٌ في كل شي بدءاً من لونِ بشرتها للونِ دفاترها، و مكتبها ، حاسبها الشخصَّي الذي لم أرها يوماً تشيحُ
بنظرها عن شاشتهِ. هي دائماً هكذا منذُ أن تم تعييني في هذهِ الشركة لم أسمعها تنطقُ بكلمةٍ حتى خِلتُ أنها
فعلاً لا تتكلم ، دفعني الفضولُ بشكلٍ كبير لمعرفةِ هذه الفتاة التي ترتسمُ فوقَ عيناها ملايينٌ من سنينِ الوحدةِ
و الكآبة لكن لم أجدْ الوسيلةَ للاقترابِ منها فالجميع من حولي لا يتكلمون معها و يرفضون التكلم عنها .
كل ما عرفته هي أنها هند بنتُ الثلايين ربيعاً تعملُ في قسمِ برمجياتِ الحاسوب .
أتت ذات صباحٍ تحملُ في يدها وردةً بيضاء و ضعتها على مكتبها و بدأتْ بالعمل و لم يكن الفضولُ لدي يدعني حتى اقتربتُ من مكتبها و ألقيتُ السلام ، نظرتْ نحوي و في عينيها نظرةٌ لا تخلو من العدوانية ثم ردت السلام ببرودٍ هائل ، برغم من هذا لم أتخلَّّ عن السؤالِ الذي يدور في خاطري " لمن هذه الوردةُ الجميلة"
لم تجب و اكتفت بابتسامةٍ يكادُ الحزنُ يخفيها . رحلتُ بعيداً عنها أحمل في نفسي الكثيرَ من الامتعاضِ فما
ذاك الشيء الذي يدع هذه الفتاة تنعزل عن عالمنا بهذا الشكل.
مضت عدةُ أسابيعٍ و لم تزل هندٌ شاحبةَ الوجهِ تأبى النظرَ حولها ، أقتربُ من مكتبها أحاولُ إلقاءَ السلامِ يتبادرُ لذاكرتي ذلك الموقفُ الذي وضُعتُ به سابقاً . قررت أن أحاول الاعتذار و بدأت أفكرُ كيف و بأي طريقة
و هي لم تزل تستمر برفضها التحدث مع أحد ، أمضيتُ يوماً أفكر كيف لكن دون جدوى إلى أن تراءت لي
من نافذتي أزهارُ النرجسِ التي كانت قد زرعتها والدتي قبل وفاتها . أخذتُ زهرتين من النرجس و ذهبت
للعمل باكراً قبلَ وصولِ هند ووضعتُ هاتين الزهرتين على مكتبها و دخلت مكتبي، لم يمر وقتٌ حتى وصلت
هند و لم أدرك وصولها الإ عندما سمعتُ صوتَ بكاءٍ قادمٍ من مكتبها هرعتُ كي أراها تمسكُ بالزهرتين
و دموعها تكاد تغطيهما ، اقتربتُ محاولاً إخرجها من ما هي فيه :قالت لي بصوت يخنقه البكاء
" كان عمر يحبها........"
مضت عشرُ دقائقٍ حتى استعادت هند هدوءها و ما كان منها غير سؤالي " لماذا تعذبني..... " فُوجئتُ بهذا
السؤال ، فأجبتها بل أنتِ من يعذب نفسه " أيعقل أن هناك إنسانٌ يعتزل البشر جميعاً" فأجابتني "عندما يُغتالُ
الفرح و لا يبقى سوى الحزن يراقصُ أحداقنا تمسي الوحدةُ دواءً للقلوب" " هند أريد ان أسمعك" هذا ما قلته لها
و ابتسمت لتقول "اتحب أن تحمل بعضاً من حزني".
عمر هو من أحببت منذ أن غادرتُ العراق بعد حرب الخليج و انتقلتُ للحياة في لندن مع عائلتي لم يمضِ
يومٌ ولم نرَ فيه بعضنا البعض ، من المدرسة و حتى الجامعة ، في العمل كذلك الأمر كنا دائماً سوية
حتى أتت اللحظة و تقدم عمر لخطبتي.كانت تلك اللحظات أجمل ما عشناه نحن و عائلتي . قررنا موعد
الزفاف و لم يبقَ غير أن يذهب عمر للعراق ليدعو والديه .
ذهب عمر للعراق بعدما نفذت كل وسائلي من منعه للذهاب فالوضعُ هناك ليس خفياً على أحد. أمضيتُ
ثلاثة أيام أكاد لا أفارقه على الهاتف في اليوم الرابع انتظرته و لكن لم يتصل حاولت الاتصال به كثيراً
لكن دون جدوى ،اتصلتُ على والديه اللذان أخبراني بأنه خرج لترتيب تذاكر السفر . لم أتوقف عن محاولة
الاتصال حتى الساعة الثالثة عصراً ما زاد قلقي أن والديه لم يعودا يجيبا على اتصالي و قبل أن
تدق الساعة الخامسة يتصل بي أحمد أحد أصدقائي في لندن و الذي سافر للعراق من فترةٍ وجيزة
ليقول " هند الله منحنا الإيمان لنقف في وجه الشدائد " أجبته "ما هناك؟ هل حدث لعمر شيء؟"
لم يجب حتى بدأت أصرخ على الهاتف" ما به عمر؟" قال " اُختُطف و قُتل " ، "من قتله؟ "
" أهل حيّنا قتلوه ثأراً لحسن الذي قُتل الشهر الماضي في تفجيرٍ انتحاريٍّ" قاطع بكاء هند
هذا الحديث ثم صرخت في وجهي " أتريد أن تعرف المزيد عن إخوة ربما كانوا يلعبوا سويةً
في صغرهم اليوم يَقتلون بعضهم البعض على الاسم و المذهب؟ ، أتريد أن تعرف أكثر عن ما
قتلت أمريكا في العراق و ما قتل العراقيون من أخوانهم؟" .
انسحبت هند و لم تترك لي سوى غصةٍ تكادُ تخنقني و شريطٍ من صورِ مجازر العراق و خطر الحرب
الأهلية و الفوضى في لبنان و مصر و السودان و اليمن و الصومال .
نهايةً، ما أصعب أن يقتلَ الأخ أخاه.