الأحلام . تلك الظاهرة التي شغلت كافة البشر .
لقد أعطى الإنسان منذ قديم الزمان أهمية قصوى لهذه الظاهرة , وقد كان الإنسان البدائي غالباً لا يميز بين الوعي أثناء الصحو والوعي أثناء الحلم , لذلك كثيراً ما اختاطت أحداث الواقع من أحداث الحلم , وعندما نشأت الأديان فسر كل منها هذه الظاهرة . ولم تستثنى أي جماعة بشرية من محاولتها فهم هذه الظاهرة , وقد كتبت ألاف الكتب عن الأحلام وكانت جميعها لا ترتكز على أي أسس علمية , بل على الخيال والتكهن والتوقع .
لقد كتبت مئات الكتب عن الأحلام ودورها وأسبابها , وجرت بحوث كثير عنها وهذا بعضها :
في بدء القرن العشرين ظهرت آراء فرويد ومؤلفاته التي غيرت كل المفاهيم السابقة للأحلام حيث وصف وظيفة الأحلام بأنها عملية عقلية سيكولوجية تصدر من منطقة اللاوعي في العقل - التي افترضها - للتعبير عن رغبات مكبوتة ، بطريقة التداعي الحر. لقد ظن فرويد أنه كشف سر الأحلام , ولكن ظهر لاحقاً أن ظاهرة الأحلام لا تزال بحاجة إلى دراسة وبحث ليتم فهم أسسها وأصولها البيولوجية العصبية .
وجاء بعد فرويد "كارل يونغ" و"ألفرد إدلر" وغيرهما من الذين عارضوا أفكاره وبخاصة تلك التي تتعلق بالرغبات الجنسية المكبوتة , وعدوا وظيفة الأحلام وظيفة نفسية تكيفية تهدف إلى إيجاد تكيف للفرد مع واقعه الحياتي وإلى حل مشاكله.. إلخ .
وقال الدكتور كلاوديو باسيتي : "لا تزال كيفية نشأة الأحلام , والهدف الذي تنشأ من أجلة , أسئلة مفتوحة بلا إجابة "
- لقد ظهرت تفسيرات كثيرة لآلية تكوين الأحلام , والرموز التي تتصف بها وفوائدها . ولكن ما الآلية والرمز والوظيفة.. تلك الألغاز المحيرة في الأحلام؟
- أي البنيات الدماغية تشارك في إحداثها .
- ما هي المراكز التي تتواصل مع بعضها لكي تنشأ الأحلام .
- ما هي علاقة الوعي أثناء الصحو ( أو أثناء اليقظة ) بالوعي أثناء الحلم .
- لماذا هناك اختلافات كثيرة وهامة بين الوعي أثناء الصحو , والوعي أثناء الحلم .
يجب أولاً أن نفسر ونفهم كيف يحدث تفكيرنا ووعينا بشكل عام أثناء اليقظة أو أثناء الحلم , ثم نحاول أن نفهم كيف يحدث التفكير والوعي أثناء الحلم .
يمكننا أن نعرف الوعي الذاتي بشكل عام بأنه ما يحصل في الدماغ الفرد أثناء اليقظة أو أثناء الأحلام من شعور وإحساس وإدراك . ويطلق على المنطقة التي يحدث فيها الوعي ساحة الشعور أو سبورة الوعي أو الذاكرة العاملة , أو النفس أو الروح , أو الأنا الواعية .
فالوعي هو عبارة عن مصباح كشاف يضيئ ذلك الموضع في اللحاء أو بعض واردات الحواس , بنشاط هام ذي قيمة للبقاء على قيد الحياة . وبشكل عام يضيء الوعي فكرة أو مجموعة أحاسيس معينة في وقت واحد .
ويحدث الوعي بكف كل واردات الحواس و ما يرد من اللحاء وباقي أقسام دماغية , و منعها من دخول ساحة الشعور فيما عدا المتعلق بناحية معينة , وهذه الناحية هي ما يمكن أن نسميه بسلسة وعي الأحاسيس والأفكار .
وتنشأ الأحاسيس أو الأفكار الواعية , لأنها تتكرر خلال زمن قصير أو طويل ولا تكون لحظية تجري لمرة واحدة وتنتهي فوراً , وهي تنتشر في أغلب بنيات الدماغ . فالذي ينتج الوعي الذاتي هو تكرار جريان التيارات العصبية في بنيات الدماغ , بين التشكيل الشبكي والمهاد واللحاء والدماغ القديم وأحياناً المخيخ , فتكرر جريان هذه التيارات هو الذي يخلق " زمن الوعي الذاتي" وبالتالي الزمن البشري الذاتي .
فإذا لم يحدث هذا التكرار ووجود ذاكرة له , فلا يمكن أن يحدث الوعي , لأنه سوف يحدث في زمن قصير جداً ولمرة واحدة وينتهي بعدها , فتكرار وجوده خلال زمن هو الذي يسمح بحدوث الجدل الفكري الذاتي بين الأفكار والأحاسيس الواعية , والتي تجري مترابطة معاً و في نفس الوقت , وبالتالي نشوء زمن الوعي أو الديمومة .
ودور المهاد في إدارة وبث الوعي هام جداً, فهو يقوم بالتعاون مع التشكيل الشبكي والدماغ القديم واللحاء في إنشاء الوعي وبثه.
والوعي هو وعي بطنينات حسية أو بأفكار على شكل طنينات حسية , فهو طنين لطنينات حسية , أو طنين يتم تكرار بثه وانتشاره , فيصبح شامل أغلب بنيات الدماغ . وهذا يماثل البث لإذاعي أو التلفزيوني .
والوعي لأنه طنين حسي يمكن إحداثه في العقل ويمكن نقله من عقل لآخر .
إن النغمات الحسية تنتج عن عمل مستقبلات الحواس واللحاء , أما النغمات الواعية فتحدث أو تطن أو تقرع في بنيات دماغية متعددة . والنغمات التي يمكن أن تصدر من اللحاء ذات كم هائل , ولا يمكن للتنظيم الشبكي استقبال وإذاعة إلا جزءاً صغيراً جداً ومحدوداً في نفس الوقت( الذاكرة العاملة أو سبورة الوعي) .
ويمكن للتنظيم الشبكي وضع واردات من اللحاء أو من الحواس تكون ذات أهمية , في الانتظار ريثما ينتهي من معالجة الموجود لديه.
والتشكيل الشبكي ليس منتج الوعي , والوعي لا يحدث فيه , فهو المتحكم و المفتاح للوعي , فالوعي يحدث في بنيات الدماغ كله .
إن عملية الدخول إلى سبورة الوعي وحدوث الوعي , تجري في الدماغ بطرق متنوعة وبعضها معقد وهي :
- من واردات الحواس الهامة التي تدخل إلى سبورة الوعي .
- من الذكريات التي تستدعى نتيجة الترابط مع بعضها .
- نتيجة طلب الذكريات من قبل سبورة الوعي , أثناء التفكير .
- الاستدعاء الشبه عشوائي للذكريات من مراكز الذاكرة الدماغ الحوفي أثناء الحلم .
وفي هذه الحالة تحدث أعقد عمليات الوعي فالشعور و اللاشعور يعملان وعمل اللاشعور هو الأقوى والمسيطر . أما في حالة الصحو فالشعور أو الوعي أثناء الصحو يكون هو المسيطر على إدارة ما يعرض على سبورة الوعي ويكون تأثير اللاشعور ( الناتج عن عمل الدماغ القديم أو الدماغ الحوفي ) ضعيف .
وبالنسبة لوعي الأحلام فعلى الأغلب يحدث بناءً على عمل المهاد والتشكيل الشبكي والدماغ القديم , ودور اللحاء يكون أقل ما يمكن لأنه في حالة راحة لاستجماع قوته ( و يتم السعي لتحاشي إيقاظه ) , وهنا نجد أن التيارات الآتية من المستقبلات الحسية قد تم كف غالبيتها , وكذلك أغلب مسارات التشكيل الشبكي والمهاد مع اللحاء كفت أيضاً .
وتعقيد آلية تشكل الأحلام , ناتج عن عدم سيطرت المهاد الكاملة على إدارة هذا البث , نتيجة التدخل الكبير للدماغ القديم , الذي يصبح تأثيره كبير وأساسي .
لذلك نلاحظ وجود ازدواجية أو ثنائية أثناء الحلم .
- فهناك صانع ومخرج للحلم وهو الدماغ الحوفي .
- وهناك المشاهد والمعلق على ذلك وهو الدماغ الحديث بما فيه اللحاء .
فالدماغ القديم باستخدامه مخزون ذاكرته المحدودة , يصنع ويخرج حوادث الحلم دفعة واحدة لأنه يعمل بالتوازي ( وهذا يماثل طريقة حدوث الإلهام لأنها أيضاّ من عمل الدماغ القديم ) .
والدماغ الحديث مع مشاركة محدودة من للحاء(جزء صغير من الذاكرته) يقوم بالمراقبة والتعليق والتدخل الضعيف بحوادث الحلم . لذلك كان فهم الحلم أصعب بكثير مما تصوره فرويد . فأعقد عمليات الدماغ تكون أثناء الحلم وليس أثناء الصحو .
فالحلم ينتج عن التيارات العصبية الكهربائية التي تجري في الدماغ أثناء النوم , وكما ذكرنا في هذه الحالة تكون غالبية بنيات التي تنتج الوعي أثناء الصحو في حالة راحة ( اللحاء والدماغ الحديث ) , وتنشط البنيات الدماغ الحوفي , ويقوم هذا الدماغ بقدراته المتواضعة بالتعامل مع المدخلات الحسية ومعالجتها , فيحاول وضعها في صورة وأحداث وعرضها , وهذه المعالجة هي أحداث الحلم .
أما مراقب أحداث الحلم والمشارك فيها فهو جزء من الدماغ الحديث الذي يكون في هذه الحالة غالبية بنياته في وضع راحة .
فأثناء الحلم ينعكس الوضع بين الدماغ الحديث والدماغ الحوفي .
ففي حالة الصحو يكون الدماغ الحديث بما فيه اللحاء في أوج نشاطه ويقوم بالتعامل مع المدخلات الحسية والأفكار . أما الدماغ الحوفي ( وهو الذي له الدور الأول في تشكيل اللاوعي ) فيكون عامل ولكن عمل الدماغ الحديث يطغى عليه .
بينما في حالة الحلم غالبية بنيات الدماغ الحديث تكون في حالة راحة ولا تشارك في معالجة المدخلات الحسية الحاصلة أثناء النوم , فيقوم الدماغ الحوفي بمعالجتها وضمن قدراته المتواضعة , فذاكرته محدودة , ومنطقه متواضع لأنه يعمل بالتوازي ولا يستعمل السببية , بعكس الدماغ الحديث الذي يعمل بالتسلسل ويعتمد السببية والمنطق في معالجاته للمدخلات الحسية وباقي للأمور .
أي في الحلم يقوم الدماغ الحوفي بمعالجة المدخلات الحسية , والنفسية , بدل الدماغ الحديث , عن طريق عرض أحداث ومواقف ومشاعر, من المخزنة في ذاكرته الخاصة , كرد واستجابة لتلك المدخلات , ولكن بشكل ركيك لا يراعي المنطق والسببية وتسلسل الأحداث بشكل مستمر .
إن الفرق الأساسي بين الوعي أثناء الصحو والوعي أثناء الحلم هو :
1 - واردات الحواس إلى سبورة الوعي تغلق غالبية مسارتها أثناء الحلم .
2 - أثناء الحلم اتصالات سبورة الوعي مع اللحاء يضعف كثيراً , ويصبح هذا الاتصال تابع لتوجيهات الدماغ القديم أو الدماغ الحوف .
3 - أثناء الحلم ينشط كثيراً الدماغ القديم ويصبح هو المدير والمخرج لما يدخل إلى سبورة الوعي . فيقوم باستدعاء مكونات الحلم من ذاكرته الخاصة أو من ذاكرة اللحاء عن طريق اتصالات خاصة به , لذلك تختلف عن اتصالات سبورة الوعي أثناء وعي الصحو .
4 – التفكير أثناء الحلم يكون بشكل أساسي متوازي دفعة واحدة كما في الإلهام , وغير سببي وغير منطقي , والتفكير التسلسلي المنطقي ضعيف وهو ما يقوم به مراقب الحلم .
فالمهم من يكون هو المدير والمسؤول عن ما يدخل إلى سبورة الوعي , فهذا هو الذي يحدث الفروق الكبيرة بين الوعي أثناء الحلم والوعي أثناء الصحو .
- فهناك مدير منطقي ويستخدم السببية ومنظم وفعال , ويستطيع استخدام أرشيف معلومات واسع وذاكرة دقيقة و واسعة , ويملك قدرات معالجة متطورة . هو الذي يكون عامل أثناء وعي اليقظة .
- وهناك مدير غير منظم وغير منطقي ولا يعتمد كثيراً السببية . هو الذي يكون المدير أثناء الحلم .
الخلاصة :
تحدث الأحلام نتيجة استلام الدماغ الحوفي قيادة معالجة الأمور بدل الدماغ الحديث الذي يرتاح ليستعيد نشاطه , لذلك ليس للأحلام أية علاقة بالأحداث التي جرت أثناء النهار ( أو السابقة ) التي حدثت أثناء عمل الدماغ الحديث ( إلا أذا كانت هامة جداّ ومؤثرة نفسياً وانفعالياً فتظهر في الأحلام ).
ومعالجة االدماغ الحوفي للأمور تكون حسب قدراته المتواضعة , مقارنة بمعالجة الدماغ الحديث الذي يستخدم ذاكرة متطورة وواسعة بالإضافة لمعالجة متطورة للمدخلات الحسية وباقي الأمور .
فالدماغ الحوفي يستخدم ذاكرة متواضعة ومحدودة , ولكنه يعمل بطريقة شاملة وسريعة في معالجة الأمور لأنه يعمل بالتوازي ودفعةّ واحدة فينشئ كافة عناصر ساحة الحلم وسيناريو الأحداث , وذلك بالاعتماد على ما يصله من مدخلات حسية ( أو نفسية ) من الوسط الخارجي أو من داخل الجسم , كالجوع أو العطش أو الرغبة الجنسية فيرى أمور متعلقة بها , أو البرد فيرى أحلام مزعجة , أو الحر فيرى أحلام مزعجة ,أو ضيق في التنفس فيرى أنه يختنق , أو أصوات عالية فيرى أحلام متعلقة بها , أو تعسر الهضم فيرى الكوابيس , أو الطاقة الزائدة والراحة فيرى نفسه يطير . . . الخ
الأحلام وما يحدث فيه من إلهامات :
قال العالم "ديمتري ميندلييف" بأنه أثناء نومه اكتشف الجدول الدوري للعناصر الكيميائية.
كما قيل أن الكيميائي "فريدريك أوغست كيكولي" في القرن التاسع عشر قال بأنه وصل إلى التركيب الكيميائي للبنزين أثناء نومه وهو اكتشاف عظيم حيث كان يحلم بثعبان يعض مؤخرته.
أما الرياضيون ومنهم "جاك نيكلاوس " فقد تحدثوا أيضًا عن عمليات الاستبصار التي حدثت لهم أثناء النوم ليلاً . فأثناء النوم ليلاً حدثت الكثير من الأعمال المهمة حيث تم تصحيح العديد من الأساليب وأزيل العديد من الغموض عن أشياء كثيرة .
إن هذا يدعم فكرة دور الدماغ الحوفي كمنشئ أساسي للأحلام
وبالنسبة للوعي أثناء التنويم المغناطيسي يكون الذي يقوم بالتنويم هو من يتحكم بما يدخل لوعي من ينومه
وبالنسبة لأحلام اليقظة يغلق جزء كبير من واردات الحواس مع بقاء اللحاء والدماغ الحوفي عاملان بفاعلية , ويقوم الدماغ الحوفي في التحكم في ما يدخل إلى سبورة الوعي باستخدام مخزون اللحاء . وهذا ما يجعل أحلام اليقظة تختلف بشكل أساسي عن الأحلام أثناء النوم .
تتمة
يجد كثير من القراء أن الاعتماد على المثيرات التي يتعامل معها العقل الحوفي فقط في تشكل الأحلام , وأن هذا معروف سابقاً , وهو غير كافي لتفسر غالبية أشكال وحوادث الأحلام , نعم هذه المثيرات تنشئ أحلام متعلقة بها ولكن هناك الكثير من الأحلام ليست متعلقة بتلك المثيرات .
طبعاً هذا صحيح
لقد ذكرت أن للدماغ الحوفي له مخزونه الخاص من الذاكرة ( وهذا المخزون ينشأ بطرق خاصة , حسب عمله , يعرفه المحللين النفسيين , سوف أشرحها مستقبلاً ) .
هذا المخزون من الذاكرة له تداعياته على أحداث الأحلام , فيحدث استدعاء من تلك الذاكرة نتيجة ارتباطها بحوادث الحلم .
والمشكلة الكبرى هي صعوبة أو استحالة فهم أو تفسير تلك الارتباطات , لأنها لا تعتمد على المنطق بل على أمور أخرى نفسية وانفعالية وقيمية . لذلك تظهر على أنها عشوائية , وانتقالات غير سببية وغير مفهومة
وكذلك تدخل الدماغ الحديث , الجزئي والمحدود , يتفاعل مع أحداث الحلم ويؤدي إلى تطورها وزيادة تعقيدها . فتظهر لنا بهذه الصورة .
" لقد وجد العالمان الان هوبسون وروبرت مكارلي ان الحلم ليس الا إشارات كهربائية عشوائية يمر بها المخ حال النوم , ويقوم نتيجة لذلك بعرض مجموعة من الصور والمواقف المختزنة في الذاكرة ولكن بشكل عشوائي , ويأتي دور العقل الواعي الذي لا يقتنع بهذه العشوائية فيحاول وضعها في صورة منطقية عبر عرضها كقصة وهو ما نسميه الحلم , وتأتي محاولات العقل الواعي دون ان نعي به !!
واعتبرت هذه النظرية اهي الأقوى في مجال شرح الكيفية التي يتم بها الحلم ! "
في رأيي هذا غير دقيق , والتفسير الذي ذكرته أراه أدق