حدثنا أستاذنا عن شي اسمه الإنسانية, فقلت له: من فضلك تكلم باللغة العصرية البشرية؟!...فلغة العرب اليوم أصبحت الانكليزية ؟!..
وبالعملة الورقية؟!..فما اشق أن يكون الإنسان إنساناً, في عصر الحروب المادية والحياة العصرية المتوحشة, عصر الذرة وغزو الفضاء وتلوث البيئة والأخلاق والعولمة .
إن الإنسان جسد وقلب وروح ونفس, مخلوق عجيب غريب يشبه الفلاسفة بعملاق انغرزت رجلاه في التراب, وتطلعت باصرتاه إلى علٍ, انه حيوان يأكل ويشرب ويمارس فعاليات جنسية, ويتصف بما يتصفه أي حيوان من حب للبقاء, وجهد للحفاظ على هذا البقاء, ونزاع مع غيره من البشر والحيوانات من اجل ذلك البقاء, ولكنه في الوقت نفسه, يحب ويبغض, يؤمن ويتعصب, يعطي ويأخذ, ولقد كانت البشرية في الماضي قبل تهذيبها بأخلاق الرسل والأنبياء, تعيش حياة ملؤها الوحشية المادية, والعنف والبغضاء, ثم ارتقت سلم الإنسانية لأن لجسد الإنسان حقوقاً و واجبات, وله دوافع وحوافز, تنتج عن حاجات ومتطلبات
ولكن طريقه إلى ذلك نوراً من النفس والروح هو العقل, والعقل هو حسن التفكير والتعقل بين الإرادة والعاطفة إنه ميزان المعرفة والعمل, وهو قادر على السمو بصاحبه إلى آفاق المُثل العليا, آفاق الحب والحق, والخير والجمال, كما أنه قادر على الهبوط بصاحبه إلى دركا البشرية الأسفل وإلى جاهلية أشد من الجاهلية الأولى , إلى مهاوي الشر والأذى والرذيلة. وجاء في الحديث النبوي الشريف: " إن لجسدك عليك حقاً, وإن لنفسك عليك حقاً" . والسعيد السعيد من يوفق بين نفسه وجسده, وبين روحه وبدنه, فلا يجعل من نفسه عبداً لأهوائه الجسدية وشهواته البدنية.
إن جسداً إنسانياً متناغماً مع الروح, ونفساً متناسقة مع الجسد, هما غاية الغايات, وطريق الإنسان إلى الراحة النفسية والجسدية . وبالتالي إلى السعادة القلبية الأبدية!...
إن الخلق الحسن صفة الإنسان المميزة وسِمته الأعظم, ولقد وصف الله عز وجل رسوله الكريم فقال له: " إنك لعلى خلق عظيم ".
إن الأخلاق الصحيحة ثابتة , لا تختلف من زمان إلى زمان, ومن مكان إلى مكان, فهي واحدة لا تتغير في كل زمان ومكان , وهي خالدة سرمدية واضحة و بيّنة , وهي ليست مبادئ تقال, ولا شعارات تطلق, إنما هي سلوك وتصرفات ملؤها الحب والرحمة والإحسان, من الإنسان إلى أخيه في الإنسانية. لأن الإنسان الحقيقي يستحق صفة " الإنسانية " إنسان مثالي , إنه يؤمن بالمثل العليا , ويعيش من أجلها ويتصرف بوحي منها ويضحي في سبيلها.
والمُثل العليا تتجلى بالحق والخير والعدل والجمال وغيرها, ولا يستطيع إنسان أن يكون إنساناً بالمعنى الصحيح إن لم يكن مثالياً, ويتفهم المثل العليا, ويؤمن بها ويعيش منها وإليها, إنه يعرف معنى الحب والتسامح, معنى الثقافة وحب المعرفة, ومعنى المواطنة الصالحة بالأقوال والأفعال, لا بالشعارات والمزايدات الجوفاء,من أجل كسب المناصب المادية الزائلة. فبدون المُثل العليا والأخلاق النبيلة لن تعرف البشرية طريق السعادة القلبية, لأننا أحفاد الحضارة العربية الحديثة نقف دائماً عند أول حادث يُنَغصُ علينا حياتنا , ولا نكف عن صب لعناتنا على خطنا العاثر, نحن نبكي دائماً بدون دموع أو بدون دموع التماسيح مع همومنا؟!..ولا نهتم باللحظات السعيدة التي قد تمر بنا أحياناً لتملأ نفوسنا وقلوبنا فرحاً وبهجة, لأن بين دموع والسعادة والبهجة شعرة, فالمرء يبكي اليوم ويضحك غداًّ !...يبكي عند الولادة ويبكون عليه عند الموت !..وكأن هذا شيء عادي لا يستحق منا وقفة تأمل وعبرة !..ونظرة فيها التفكر والتدبر!..
إن الإنسان اليوم , يعلم أنه لا سبيل للخروج من همومه وأحزانه وآلامه, إلا إذا صارع أمواج الخضم الكبير من المشاكل الحياتية والاجتماعية وانتصر عليها بالعقل والمحبة والقناعة, وخاصة ونحن نعيش في ذروة عصر التلوث الفكري والأخلاقي والبيئي, عصر فقدان المحبة والقيم والمُثل العليا,عصر الأمراض المادية الحديثة!؟...
إن إنسان اليوم بحاجة لإيجاد التوازن بين المصالح المادية والحاجات الروحية ,ويحكى إن بعض الصحابة رأى شاباً يسرع إلى عمله بحماس, فقال : " لو كان هذا في سبيل الله " , فرد النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا هذا , فإنه إن كان خرج يسعى على أولاده صغاراً فهو في سبيل الله, وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله, وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان". والرياء والمفاخرة والكذب صفة إنسان اليوم مع الأسف.
وقال أحد الأعراب : " قدم علينا فلان - وسماه – ولا مال معه فأغنانا ", فقيل: له :وكيف ذلك يا أخ العرب ؟ قال: علّمنا مكارم الأخلاق فعاد غنيُنا على فقيرنا , فغَنينا كلُنا.
ولاشك فإن المعطيات الإنسانية السامية تصل إلى من يستقبلها عن طريق الحواس الخمس إلى القلب , وهي بحاجة إلى الفهم والتدبر في عالم السموات والأرض, وقديماً قال الجاحظ في وصف إنسان مادي ضائع جاهل , مثل إنسان اليوم : " يسمع غير ما قيل, ويفهم غير ما سمع, ويكتب غير ما فهم, ويقرأ غير ما كتب ".لأن المعرفة الحسية والروحية الحقة تقتضي التدقيق والتمحيص في استقبال المعطيات , وتستلزم فحصها وتقليبها ومقارنة بعضها ببعض ،القديم منها والجديد, قبل ضمها إلى حصيلة المعارف الإنسانية السامية , التي هي رأس مال الفكر الإنساني الأسمى.
لقد عزف كثير من الناس في عصرنا المادي بمبادئ الأخلاق والمثل العليا, وتحدوا حقيقة الروحانيات , ولم يعد الصدق والعدل عند الناس سبيلاً للأعمال الحياتية الصالحة, ولم تعد النظافة من الإيمان, وإنما أصبحت ماءً نقياً ومنظفاتٍ صناعية؟!..ثم تطور مفهوم الجريمة والتجارة بالأعضاء البشرية والأخلاق الإنسانية, في عصر مادي قبيح فعبر الشاعر العربي عن ذلك بسخرية حين قال:
قتل أمراء في غابة ,جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر!..
وهكذا انقلبت المفاهيم بين البشرية والإنسانية لمفهوم السعادة القلبية في اللغة العصرية, واصطدم المبدأ بالسلوك, واصطدمت المادية بالروح؟!..
وتعيش الحضارة البشرية الآن في حياة مزدوجة الشخصية, تقلب أنظارها بين واقعها على الأرض , وأملها في السماء عسى أن يكتب الله لها الهداية القلبية, وهي تجري بحثا عن السعادة القلبية الضائعة, في هذه الحياة المادية الصاخبة , وكأنها نسيت أن المتاعب خلقت لتجعلنا نفكر, لا لتجعلنا نقلق؟!.. وعلينا أن نفهم جيداً عن المعنى الحقيق للسعادة! وأن نسعى جاهدين نحوها بكل عزيمة ونشاط وحسن إدراك لتحقيقها.
والحقيقة أن إنسان العصر الحديث إذا بحث عن السعادة القلبية الحقيقة فسيجدها...ولكن كما وجد ذلك العجوز نظارته آخر الأمر ...وجدها على أنفه؟!..
ولعل العرب في شتى أقطارهم هم في حاجة ملحة اليوم إلى استعادة سعادتهم في الذكريات المجيدة واستذكار مناقبهم العديدة , وبدء نهضتهم الحقيقة الثابتة في العلم والمعرفة الروحية والتربوية, أملا في العودة يوماً إلى مكانهم اللائق تحت الشمس!..فالقلب السعيد يخفق دائماً بالمحبة والروح والإنسان والرحمة!؟..والحياة بلا روح هي موت أبدي ولا تنفع معه أجهزة الإنعاش المادية!؟..ولا كلمات عــاش.. عــــاش ... الانفعالية !؟..فهل تعود البشرية من جديد إلى أحضان الإنسانية؟!....
الدكتور مصطفى ماهر عطـــــــــري
استشاري أمراض القلب والأوعية الدموية جامعة