يولد الانسان وحيدا ، و يموت وحيدا ، و لكنه لا يملك سوى أن يحيا مع الآخرين ، يقاسمهم حلو الحياة و مرها ، ويبذل قصارى جهده في سبيل تحقيق التواصل الاجتماعي معهم ، بكل محبة و اخلاص ، لأنه يعلم بعفوية صادقة ان البشر جميعا هم اخوته من امه الاساسية الاولى هذه الارض الطيبة .
ان الاخاء العالمي هو ابرز سمات عالمنا المعاصر ، مهما كانت الخلافات التي قد تنشب بين البشر ، و مهما كان من امر تلك الفوارق و المواجهات المستمرة التي قد تضطرنا اليها احيانا فوارق الاجناس و الطبقات و العصبيات و القوميات و ما الى ذلك ، فإننا لا نكف لحظة واحدة عن التجاوب مع غيرنا من البشر في أرجاء العالم كافة ، عن طريق مد يد العون و المساعدة ، أو الشعور الصادق بالعطف نحوهم ، خاصة في النكبات و الازمات و الحروب ، لأنها قضية انسانية تمس كياننا البشري في صميم القلب و الوجدان .
لقد أصبح انسان القرن الحادي و العشرين أقدر على فهم مواقف الآخرين ، مما كان عليه انسان القرون السابقة ، كما أصبح في الوقت نفسه أكثر استعدادا لتوسيع آفاقه الذهنية و النفسية و القلبية مما كان عليه أسلافه في القرون الخوالي ، و كل هذا يعود إلى فضل حسن استخدام الثورة العلمية و التقنية الهائلة في الشبكات العنكبوتية و عالم الكمبيوتر ، و الاتصالات الفضائية الضخمة ، وليس هناك من شك ، في أن تزايد قدرة البشر على التواصل و التفاهم و التجاوب في المحن و المصائب ، انما هو الدليل الحي الساطع على أن البشرية ماضية قدما في سبيلها نحو تحقيق المزيد من التكافل الاجتماعي و الاخاء العالمي بين ابناء آدم و حواء ، أبناء الكوكب الأزرق .
و يعتقد بعضهم ان الانسانية سائرة في الطريق إلى تزايد الفردية و الأنانية ، و لكن التاريخ الإنساني يشهد بأن كل تقدم تحرزه البشرية ، لا بد أن يتجه نحو المزيد من التوافق و التماثل و الإخاء و المحبة ، لا نحو المزيد من التفرد و الانقسام و التنوع ، و الدليل على ذلك ذاك التضاد الدولي مع شعوب العالم أجمع إذا هزتها الكوارث الطبيعية من الزلازل و حمم البراكين أو حتى الحروب المفتعلة لأكل خيرات و قوت الشعوب الفقيرة مهما كان لونها أو عرقها .
ان الانسانية اليوم تسير نحو تحقيق قسط أكبر نحو التوافق و الاخاء و التماثل ، و القضاء على الفوارق الطبقية الشاسعة و تحقيق العدالة الانسانية و عالم الحق و المحبة ، ونحو الحد من ضروب التفوات الاجتماعي القائمة بين مختلف الطوائف و المذاهب ، و على تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل و المرأة ، و كذلك تسير نحو التسوية بين أفراد البشر في الحقوق والواجبات ، و حق الجميع في الحياة بما فيها الحيوان و النبات ، لما فيه خير البيئة الانسانية و الكونية .
و اذا كان فلاسفة القرون الماضية قد ظنوا أن " الصراع " و "القوة " هو السبيل الأوحد إلى التقدم ، إلا ان عالم اليوم و غالبية فلاسفته و علمائه ، يؤكدون و يجزمون بأن " الاتحاد الانساني " و عالم المحبة و الاخلاق و العدالة هو الطريق الأوحد للتقدم البشري و الحضاري ، و لكن هذا ليس مجرد نتيجة حتمية لقانون طبيعي ، بل " معيار " نسهم نحن أنفسنا بإرادتنا و عقولنا و قلوبنا في العمل على تحقيقه ، أو هو " قيمة عليا " نعمل نحن كبشر بحريتنا على تثبيت دعائمها في عالمنا الإنساني اليوم .
و الواقع انه هيهات هيهات للبشرية أن تحقق أي سلام دولي عادل ، أو أن تصل إلى أي إخاء انساني ، اللهم إلا بالعمل الجاد على التخفيف من غلواء ذلك الطموح الطبيعي الذي قد يدفع بعضهم نحو القضاء على الآخرين بمنطق القوة ، من أجل اشباع لذاتهم و شهواتهم الخاصة .
فالأخلاق في صميمها معارضة للأنانية البيولوجية ، و إن كل ما من شأنه أن يعمل على احلال التوافق و المحبة و السلام ، محل التنازع و الصراع و الاختلاف ، لا بد من أن يمثل في حركة موكب التاريخ التقدمي الحقيقي للانسانية ، عاملا ايجابيا و فعالا و ساميا من عوامل الترقي الأخلاقي ، و يجب ان يعلم الجميع ، جميع الشعوب بأنهم لن يطيب لهم عيش إلا بلغة الحب و التواصل و الحوار الإنساني ، لأن الذات الإنسانية ليست قوقعة صلبة يحيا في داخلها موجود فردي أناني قد كتب عليه أن يعيش في عزلة شاقة أليمة ، بل هي حقيقة سامية مفتوحة تدرك نفسها منذ البداية في عالم المساواة مع الآخرين ، و خاصة بالشعور بالمسؤولية و الاحساس بضرورة التعاون و الشعور بوجود الآخرين ، مع امكانية قيام " تواصل روحي و نفسي " بين بني البشر قاطبة في كل مكان و زمان ، و علينا أن نحتكم دائما و أبدا إلى منطق العقل و الحق ، لأن الانسان المعاصر يعرف بلا شك أن الحق و العدل و المحبة هم أساس الحياة الطبيعية مثل الماء و الهواء ، و أن منطق القوة بالحروب و أسلحة التدمير و افتعال الازمات الاجتماعية و شتى مظاهر الصراع فهذا يعني نهاية الانسانية ؟!...
ليس هناك " نوع بشري " بل هناك " نوع انساني " وما دامت الانسانية قد أرادت لنفسها المحبة و البقاء ، فلم يعد أمامها الا أن تسير على درب الرجاء ، درب المحبة و السلام و الاخاء ، و ستظل تحية الانسان لأخيه الانسان " السلام عليكم و رحمة الله و بركاته " مليئة بشعور المحبة و الأمن و الأمان في كل زمان و مكان ، و لمن خاف مقام ربه جنتان و هل جزاء الاحسان الا الاحسان
د – مصطفى ماهر عطري
حلب في 23/5/2011