news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
التواصل واللغة ... الجزء 1... بقلم : نبيل حاجي نائف

إن الأحاسيس والمشاعر والأفكار تجري في دماغ كل إنسان , وهي " طنينات حسية "  تحدث بشكل فردي داخل دماغه , ولا يمكن أن يعلم بوجودها الآخرين , إلا إذا حدث ما يعلمهم بوجودها


إي حصول تواصل معهم يتم بموجبه إعلامهم بها . بالإضافة إلى ضرورة وجود ما يشابهها لديهم , و إلا يستحيل أن يتمثلوها و يتصورها وبالتالي يعرفوها .

 

لقد نشأ التواصل بين أدمغة الكائنات الحية وتطور إلى أن أصبح على ما هو عليه الآن لدى الإنسان . فالحيوانات وخاصةُ الثدييات التي تعيش جماعات , لديها طرق تنقل بواسطتها نواياها أو أفكارها إلى رفاقها , فهي تستعمل الحركات والأصوات وتعابير الوجه والعينين لنقل ما يجري في دماغها إلى أدمغة الآخرين . فالغزال عندما يشاهد الأسد متحفز لافترسه ويشاهد تعابير وجهه وعينيه , ويقرأ نية الأسد لافترسه , يجري ويهرب بسرعة . واللبوة وكل أم ( لدى الثدييات) تقرأ أو تعرف دوافع ونوايا طفلها من خلال تصرفاته فتعرف بعض ما يجول في دماغه , وكذلك وليدها يعرف بالوراثة ويتعلم أن يتواصل مع أمه فيقرأ بعض ما يجول في دماغها.

لقد استطاعت الحيوانات أن تتواصل مع بعضها ونقل بعض ما يجري في أدمغتها إلى الآخرين . فقد تحقق نقل جزء مما يجري في أدمغتها إلى أدمغة غيرها بواسطة لغة مؤلفة من رموز بصرية وصوتية وشمية .

 

والطفل بعد ولادته يتواصل مع أمه بإشارات وتعبيرات وحركات وبواسطة الشم واللمس والنظر والسمع وباقي الحواس ، ثم يبدأ التواصل اللغوي بالتشكل تدريجياً وبالاعتماد على التواصل الحسي , الذي هو أساس التواصل بين الإنسان والواقع بكافة مجالاته . والتواصل الحسي يبقى الأساس في كل تواصل مباشر مع الآخرين ، وهذا التواصل له عناصره وأسسه وآلياته وهي التي تقرر نتيجة التواصل .  ;

 

فتأثير اللقاءات المباشرة بين البشر يختلف كثيراً عن تأثير اللقاءات غير المباشرة مثل المراسلات والاتصالات الهاتفية ، فتعابير الوجه ونبرات وخصائص الكلام  وطريقة الرد  كل منها تقرأ , والمعلومات المتضمنة في كل تواصل مباشر أوسع بكثير من أي لقاء غير مباشر . وتأثيرات اللقاء المباشر لم تدرس بشكل كاف لأنها أوسع وأعم بكثير مما يتوقع ، وتأثيرات اللقاء المباشر تختلف من مجتمع إلى آخر مع أن هناك أسساً مشتركة عامة بين كافة أنواع المجتمعات . والتأثيرات الاجتماعية , الثقافة والعادات وغيرها  , ظلت تنتقل عبر آلاف السنين بالاتصال المباشر , بالتعابير والتصرفات والإيحاءات و تعابير الوجه والعينين , مترافقة مع اللغة .

 

وقد تطورت اللغة لدينا نحن البشر نحو التخصص والاختزال والتبسط إلى أن أصبحت إلى ما هي عليه لدينا الآن , لغة صوتية أو بصرية محكية أو مقروءة , و بقي استخدام كافة أشكال التواصل الأخرى . وتم توحيد الرموز والدلالات اللغوية لكي تسهل نقل ما يجري في العقل إلى الآخرين . فأصبحت أحاسيس ومشاعر وأفكار الأخر مكشوفة بشكل كبير, وتحقق تواصل فعال  لدى البشر .

فالإنسان الآن لم يعد يعي ذاته فقط , فهو يستطيع أن يتمثل وعي الآخر , ولم يعد وحيداً , فقد تداخل وعيه الذاتي مع وعي الآخرين . فالحياة الاجتماعية التي يعيشها ليست مشاركة مادية فقط , فهي مشاركة في الأحاسيس والمشاعر والأفكار والرغبات والوعي أيضاً .

 

لكي يتواصل إنسان مع آخر بواسطة اللغة يجب أن يستعمل الكلمات أو الدلالات التي تمثل نفس المعاني والأفكار الفكرية , فلن يستطيع عقل إنسان أن يدرك أفكار عقل إنسان آخر إلا إذا استعملت واسطة تواصل       ( لغة ) موحدة بين الاثنين, عندها يمكن نقل ما يدركه أو ما يشعر به أو يفكر به أحدهما إلى الآخر. 

إن آليات التواصل بين البشر تشابه كافة آليات الإرسال و الاستقبال تماماَ , فهناك بنيات لغوية تمثل البنيات الفكرية تقوم بنقل مضمون الأحاسيس والأفكار والمعاني من عقل إنسان لآخر, وهذه تنقل على شكل أصوات أو رموز بصرية أو غيرها من وسائل الترميز, وتحمل المعلومات من عقل إلى آخر.

 

ويجب أن تتطابق آليات أو دارات الإرسال مع مثيلتها في الاستقبال ، لكي يتم نقل الرموز وبالتالي الأفكار والمعاني , فأنا لا أستطيع نقل مفهوم أي إحساس إلى إنسان آخر إذا لم يكن لديه نفس الإحساس أو شبيه به , أي يجب وجود - بنية أو جهاز- إحساس لدى الإنسان الآخر تشابه بنية الإحساس الموجودة لدي , لكي يستطيع استقبال ما أرسله له , وبالتالي يشعر بشبيه ما أشعر.

 

فالتواصل البشري بكافة أشكاله يعتمد على الأحاسيس والأفكار المتشابهة بالدرجة الأولى , وعلى البنيات الوسيطة المتشابهة - اللغة أو الرموز الموحدة - وعلى تشابه بنيتي الاستقبال والإرسال , أي يجب تشابه بنية وآليات العقلين المتواصلين  مثل أجهزة الراديو وكافة أنواع أجهزة التواصل, والتواصل الإنساني طبعاَ أعقد بكثير من أي تواصل آخر .

" قال برغسون:

هناك شيء واحد أمام الفيلسوف يستطيع أن يفعله , وهو أن يعين الآخرين على الشعور بحدس مشابه لحدسه، وذلك بواسطة التشبيهات والخيالات والصور الموجهة بالأفكار "

إذاَ فلكي ندرك ما أدركه وما شعر به أفلاطون أو أرسطو أو فيثاغورس... وباقي الفلاسفة والمفكرين والعلماء, أو ما يقوله الأدباء والشعراء بشكل خاص , يجب علينا أن نستخدم بنيات لغوية نبني بها الأفكار الخاصة بنا , تشابه البنيات الفكرية التي توصلوا إليها وأعطتهم الإدراك والشعور ذاك , عندها يمكن بذلك أن ندرك ونشعر بشبيه ما أدركوه وما شعروا به.

 

إن كل إنسان يجد أحاسيسه وأفكاره وحقائقه واضحة وصحيحة ومدركة بسهولة , ولكن عندما ينقلها لإنسان آخر يجد في أغلب الأحيان عدم تقبل أو تفهم أو إدراك لهذه الأفكار , وذلك بسبب اختلاف البنيات الفكرية أو اللغوية أو طريقة المعالجة الفكرية التي استعملت من قبل الاثنين , بالإضافة إلى اختلاف الدوافع والأهداف والمراجع بينهما .

 

نحن نرسل ونستقبل حالاتنا المزاجية من وإلى بعضنا البعض إلى الدرجة التي يتم فيها تنظيم للنفس خفي ضمني . أحياناً يكون تأثير بعض من يصادفوننا تأثيراًً سيئاً , وأحياناً أخرى يكون التأثير منعشاً للذات . هذا التبادل الشعوري العاطفي يحدث من دون أن ندركه حسياً , لأنه يتم برهافة, مثل الأسلوب الذي ينطق به البائع مثلاً بكلمة "شكراً " فقد يتركنا وقد شعرنا بالتجاهل والغيظ , أو بالترحيب والتقدير . فنحن ننقل المشاعر لبعضنا البعض كما لو أنها فيروسات اجتماعية .

نحن نرسل إشارات عاطفية للمحيطين بنا , إشارات تؤثر فيهم. وبقدر ما نكون حاذقين اجتماعياً , تكون قدراتنا أفضل فيما نرسله من إشارات عاطفية . إنها- ببساطة- الوسيلة التي تضمن عدم تسرب الانفعالات المزعجة التي تسبب الضيق والكدر إلى علاقاتنا . والذكاء العاطفي يشمل" إدارة هذا التبادل" للإشارات. فالأشخاص القادرون على مساعدة الآخرين وإشباع رغباتهم يملكون  سلعة اجتماعية ذات قيمة خاصة   .

 

وبنشوء وتطور التواصل اللغوي , بقيت التأثيرات الحسية موجودة , وتفاعلت معه , في نقل المعلومات والتواصل بين أفراد الجماعة ، لذلك نجد فرقاً كبيراً بين الوضع النظري والوضع العملي في العلاقات الاجتماعية المباشرة . فالمهارة في العلاقات الاجتماعية يكتسبها البعض خلال حياتهم دون دراسة نظرية ، فهم يكتسبونها ويتعلمونها من الاتصالات الواقعية المباشرة مع الآخرين ، وهذه المهارة يصعب تعلمها نظرياً لأنها تكتسب بشكل عملي مباشر , لكي تشترك كافة الأحاسيس مع الأفكار أثناء ممارستها  ويتم الترابط والانسجام بين التصرفات والانفعالات والأحاسيس والأفكار .

 

فمهارات التواصل الاجتماعي المباشر هي من أعقد المهارات ، و مع أنه يمكن اكتسابها وتعلمها بطريقة مدرسية إلا أن ذلك يحتاج إلى زمن طويل ، وتشارك فيها كافة طرق التواصل . إن هذه المهارات تكتسب أثناء الحياة  وعندما تتاح  للفرد عناصر وخصائص فزيولوجية وعصبية ونفسية  موروثة مناسبة ، وظروفاً وأوضاعاً وعلاقات اجتماعية ومادية مناسبة أيضاً ، فالأفراد الحساسون جداً أو الإنفعاليون أو الكسولون أو الإنطوائيون  يصعب عليهم اكتساب مهارات في التواصل الاجتماعي المباشر .

 

وكذلك الذين لم يتعرضوا لعلاقات اجتماعية واسعة ومتنوعة مباشرة مع الآخرين  لا يحققون مهارات تواصل عالية . وكما نعلم إن المهارة في العلاقات الاجتماعية المباشرة  لها دورها الهام في كافة العلاقات والصفقات البشرية المباشرة ، فالتاجر الذي يتعامل مع الزبائن مباشرة يكون رأسماله الأساسي والفعال ليس المال أو البضاعة فقط ، بل مهارته في التواصل الاجتماعي مباشرة ، وهو يكتسبه بالممارسة وخلال الزمن  وفي بدايات حياته لأنه يصعب اكتساب هذه المهارات أو ربما يستحيل في الكبر .

إن الماهر في التواصل المباشر يقرأ ويفهم ويعرف تعابير الوجه والصوت والحركات - وبدقة عالية - لمن يتواصل معه ، ويتصرف بما يناسب هذه الدلالات والأوضاع ، فالتاجر يعرف بعد بضع لحظات من اللقاء بأن الزبون يريد الشراء فعلاً أم لا ، أو أنه يستعلم فقط ، أو أنه يرغب كثيراً بالبضاعة أو العكس .......الخ

2011-03-16
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد