دَخَلَ طَارِقٌ مَكْتَبِي في طَرِيْقِ عَوْدَتِهِ مِنَ المَدْرَسَةِ وَأَلْقَى بِحَقِيْبَتِهِ المَدْرَسِيَّةِ بِطَرِيْقَةٍ عُدْوانِيَّةٍ تُنَاقِضُ ابْتِسَامَاتِ الفَرَحِ وسَنَابِلَ الأمَلِ الَّتي ألقَى بِها فِي دَياجِيْرِ ظُلْمَتِي :
- بابا .. سَمِعْتُ زُمَلائِي فِي الصَّفِّ يَتَهَامَسُوْنَ بِما عَلِمُوهُ مِنْ آبائِهِم مِنْ أَنَّ هُنالِكَ تَشكِيْلَةً حُكُومِيَّةً جَدِيْدَةً ، وَأَنَّ اسْمَكَ مَطْرُوحٌ لِشَغْلِ حَقِيْبَةِ " وِزَارَةِ المَظالِم "
- مَسْؤولِيَةٌ أَتَشَرَّفُ بِحَمْلِها وتَحَمُّلِها يا بُنَيَّ ، وَلَكِنَّهُم لَن يُمَكِّنُونِي مِنْ نَيْلِ هذا الشَّرَف ، فَالأَمْرُ دُوْنَهُ " تَمْسِيحُ جُوخٍ " لا أُجِيْدُهُ وَلَن أُجِيْدَهُ مَا حَيِيْتُ .
- وَما الضَّيْرُ فِي ذَلِكَ يا أَبَتَاه ؟ أتَشُكُّ بِنَظَافَةِ جُوْخِ أَصْحَابِ القَرار ؟
- الجُوخُ النَّظِيْفُ لا يَحْتَاجُ إلى " مَسْحٍ وَلا تَمْسِيْحٍ " ، ولا يَقْبَلُ ولا يَتَقَبَّلُ " ماسِحِيْنَ وَلا مُتَمَسِّحِيْنَ " يا بُنَيّ .
تَحَسَّسَ طَارِقٌ حَقِيْبَتَهُ المَدْرَسِيَّةِ وَقَد أدْرَكَ أنِّي لَمْ أُخّيِّبْ أَمَلَهُ إلاَّ مُرْغَماً ، وَلكِنَّهُ تَوَقَّفَ بيْنَما كُنْتُ أَرُدُّ على الهَاتِف :
- خَيْرٌ إنْ شَاءَ الله ؟
- مُبَارَكٌ يا صَدِيْقِي ، هَا قَدْ أَتَتْكَ الفُرْصَةُ المُناسِبَةُ لِتَخْدُمَ هذا الوَطَن ، فَأَرِنا ما أَنْتَ فَاعِلْ .
- أَهْلاً صَدِيقي ، وَلْنُسَلِّمَ بِأَنَّ ما تَظُنُّهُ أضحى حقيقَةً ، فّسَتَكُوْنُ الخُطُوطُ العَرِيضَةُ فِي أدائِي هِيَ التَّالِيِة :
• سَأَعْمَلُ بِدَايَةً على إلغَاءِ أيِّ دَورٍ سِياسِيٍّ لِلوَزَارَة ، وأُحَوِّلُها إلى مُدِيْرِيَّةٍ إنتاجِيَّةٍ مَيْدانِيَّةٍ تُدِيْرُ وِرْشَةَ عَمَلٍ تَعِيْشُ مَعَ المُواطِنِ فِي شارِعِهِ وَفِيْ سِجْنِهِ وَفِي مَحْكَمَتِهِ وَفِي ... وَفِي ... وَفِي ....
• سَأَدْخُلُ السُّجُوْنَ مُتَنَكِّراً - حَتَّى عَنْ إدارَةِ السِّجْنِ – وَأَسْتَمِعُ وَأُسْمِعُ المَساجِينَ ... أُعَايِنُ ظُرُوفَهُم ... أعيْشُ مَشاعِرَهُم ... أَدْرُسُ بَوَاعِثَهُم وَدَوَافِعَهُم الإجْرامِيَّةِ وَمَدَى تَأثِيرِ الجَرِيْمَةِ عَلَيْهِم وَعَلى المُجْتَمَعِ بِشَكْلٍ عام ... ومَدى فَعَالِيَّةِ العُقُوباتِ فِيْ تَحْقِيْقِ الرَّدْعِ العَامِّ والرَّدْعِ الخَاص ... وَ ... وَ ... وَ ...
• سَأَنْقَضُّ عَلَى دُوْرِ المَحَاكِمِ دُوْنَ سَابِقِ إنْذارٍ ، أُعَايِنُ سَيْرَ العَمَلِ الإدَارِيِّ فِيْها ، ثُمَّ أَخْتَارُ عَيِّنَةً عَشْوَائِيَّةً مِنَ القَرَارَاتِ الإداريَّة لأَتَحَقَّقَ مِن مَدى مُطَابَقَتِها لِلقَوانِيْنِ ومَدى تَمَاشِيْهَا مَعْ مُسْتَوْجِبَاتِ العَدَالَةِ وَمُسْتَحْسَناتِ الرَّحمَةِ . وَ ... وَ ....
- مَهْلاً .. مَهْلاً يا صَدِيْقِي ، لَقَد اتَّضَحَ برنامَجُكَ ، وَ أتَفَهَّمُ رَغْبَتَكَ بِتَحْوِيْلِ الوِزَارَةِ إلى وِرْشَةِ عَمَل ، وَلكِنِّي لا أَرى أنَّ الدَّوْرَ السِّيَاسِيَّ لِلْوِزَارَةِ يَتَعَارَضُ مَع َ بَرْنَامِجِكَ ، ولا أرى مُبَرِّراً لِتَحْويْلِها إلى مُديريَّةٍ عامَّة .
- يا صَديْقي : " إدارَةُ المَظَالِمِ " هِيَ المنَصَّةُ الأساسِيَّةُ والوَحِيْدَةُ لِضمانِ أمنِ الحُكُوْمَةِ والشَّعْبِ مَعاً ، فَإِنْ ألقَينَا بِهذهِ المِنَصَّةِ فِي حَقِيْبَةٍ وِزَارِيَّةٍ وَرَبَطْنَا قَوَائِمَهَا بِسِياسَةِ الحُكُوْمَةِ فهذا يَعْنِيْ أنَّنَا نُحَوِّلُ هذهِ المنَصَّةِ إلى غُرْفَة عَملِيَّاتٍ تُديْرُها الحُكُوْمَةُ لِضَمانِ أَمْنِها فَقَط دُونَ أيِّ اعتِبارٍ لأَمنِ الشَّعْبِ وَرُبَما على حِسابِهِ فِيما لَوْ تَعَارَضَ ذلكَ مَع أمْنِها ، وهذا يَعْنِي سُقُوطَ الحُكُومَةِ تِبْعاَ للانهيارِ الأمنِيِّ الشَّعبِيّ ، وبالتَّالِي لا وَطَن .
- ولكِنَّ الأمنَ مَنُوطٌ بِوِزَارَتِيّ الدَّاخِلِيَّةِ والدِّفاع !
- لم تُصِبْ يا صَديْقِي فَهَاتَانِ الوِزَارَتانِ هُمَا وِزَارَتَانِ تَنْفِيْذِيِّتانِ ليسَ إلاَّ ، فَوِزَارَةُ الدَّاخِلِيَّةِ يَجِبُ أنْ تَتْبَعَ السُّلطَةَ القَضَائِيَّةَ وتُنَفِّذَ قَرَاراتِها ، وَوِزَارَةُ الدِّفَاعِ يَجِبُ أنْ تَتْبَعَ السُّلْطَةَ السِّياسيَّةَ وتُنَفِّذَ قَرَاْرَاتِهَا وبالتَّالِي فإنَّ إِدْرَاجَ هاتَيْنِ الوِزَارَتَيْنِ ضِمْنَ الحَقَائِبِ الحُكُوْمِيَّةِ خَطَأٌ إدَارِيٌّ أمْنِيٌّ ، وإنَّنِي أَرى أنْ تَتَحَوَّلَ كُلٌّ منْ هاتَيْنِ الوِزارَتَيْنِ إلى مُدِيْرِيَّةٍ عَامَّةٍ تُنَفِّذُ قَرَارَاتِ الجِّهَةِ صاحِبَةِ القَرَارِ فيمَا يَخُصُّ المَسْؤوليَّاتِ المُلْقَاةَ على عاتِقِها .
- لَقَد قُلْتَ إنَّكَ سَتُحَرِّرُ وزَارَةَ المَظَالمِ مِنْ سُلطَةِ الحُكُوْمَةِ فَهَلْ سَتُحَوِّلُهَا هيَ الأُخْرى إلى إدَارَةٍ عَامَّةٍ وَلأيِّ جِهَةٍ سَتَتْبَعُ هذِهِ الإدَارَةُ ؟
- أجَل ، يَجِبُ أنْ تَتَحَوَّلَ إلى " مُدِيرِيَّةِ إدَارَةِ شُؤُونِ المَظلومِينَ وَرَفْعِ المَظَالِمِ " وتَتْبَعُ إدَارِيَّاً وَمَاليَّاً إلى رئاسَةِ الحُكُومَةِ بينَمَا تَتْبَعُ رَقَابِيَّاً إلى مَجْلِسِ الشَّعْبِ بِحَيْثُ تَكُوْنُ مَسْؤوْلَةً أمَامَهُ فَقَط .
- ولكِنَّ مُعْظَمَ الأنْظِمَةِ في العَالَمِ – إنْ لَمْ يَكُنْ جَمِيْعُهَا - تُدْرِجُ هذهِ الوِزَارَاتِ كَحَقَائِبَ سيادِيَّةٍ وأَسَاسِيَّةٍ في التَّشْكِيلَةِ الحُكُومِيَّةِ .
- لَيْسَ الصَّوَابُ دائِمَاً في الكَثْرَةِ ، فأَكْثَرُ أنظِمَةِ العَالَمِ تَعِيْثُ فَسَادَاً في مُقَدَّراتِ شُعُوبِها ، فهَلْ نَعْتَمِدُ الفَسَادَ قَاعِدَةً للصَّوَابِ ؟
وبَيْنَما نَحْنُ في حَدِيثِنا سَمِعْتُ أَصْوَاتَ " خُطُوَاتٍ تَتَرَاجَعُ إِلى الأَمَامِ " ... اِقْتَحَمَتْ جُثَثُهُمُ المَكْتَبَ دُونَ اسْتِئْذَانٍ وأَعْلَنَ زَعِيْمُهَا عَنْ مَهَمَّتِهِ قَائِلاً :
- رَئِيْسُ " مَجْلِسِ إدَارَةِ الفرْعِ " يُرِيْدُكَ ، فَهَيَّا مَعَنَا دُوْنَ مُقَاوَمَةٍ .
- أَمْثالُكُمْ أصْغَرُ مِنْ أنْ يُقَاوَمُوا ، فَهُمْ يُرْدَعُوْنَ ويُجَابَهُوْنَ حَتَّى يَسْتَوُوْا .
صَرَخَ طَارِقُ فيْ وُجُوْهِهِمْ :
- أينَ تَقْتَادُوْنَ أَبِي أيُّهَا الغُرْبَانُ ؟
- لاَ تَخَفْ يا بُنَيَّ ، فَهُمْ فَقَط يُقَيِّدُونَنِي كَما يُرِيْدُونَ ، أمَّا أنَا فَأَقُوْدُهُمْ إلى حَيْثُ أُرِيْدُ .
- سَأنْتَظِرُكَ يا أَبَتِ حَتَّى تَعُودَ فَتَقْرَأَ " الرُّؤْيا التالية " بِقَلَمِي وَأقْلامِ رِفَاقِي فَلا " خُطُوَاْتٌ إلى الوَرَاءِ " وَ " لا رُجُوْعَ إلى الأمامِ " بَعْدَ الآن ! .
الجمعة /21/1/2011/