لو نظر القارئ الى خريطة هذا العالم المعاصر منذ بدء الأحداث في أفغانستان أو قبيل تلك الأحداث بقليل
لوجد خارطة العالم الأفرو- آسيوي تحترق تحت أقدام جنود الناتو وأمريكا وتحت قصف دبابات ومدافع هذا الحلف.. فبعد حادثة ناطحتي السحاب التي اتهم بها جماعة طالبان والقاعدة وكنا قد أشرنا بمقالة سابقة أن الأمر ببساطة كان من إعداد البنتاغون والمخابرات المركزية الأمريكية وذلك لشرعنة غزوها لأفغانستان. أتى بعدها الغزو الأمريكي للعراق هذا البلد الذي دفع ثمن هذا الغزو أكثر من مليون ضحية وشرد منه ملا يين السكان ودمر اقتصاده وفقد قراره السيادي.
وتتالت الأحداث سريعة وسرعان ما زار كولن باول دمشق مقدما للقيادة السورية شروطه المعروفة التي تتلخص كالتالي:
* قطع العلاقة مع إيران.
* إغلاق مكاتب الفصائل الوطنية الفلسطينية في دمشق.
* قطع العلاقة مع حزب الله
* وأخيرا توقيع معاهدة صلح مع اسرائيل حسب الشروط الاسرائيلية.
تلك كانت شروط البيت الأبيض التي جاء بها كولن باول
إلا أن سورية رفضت أن توافق على تلك الشروط كونها بكل بساطة لا تتوافق مع قرارها السيادي, وبذلك أزعجت الإدارة الأمريكية.و تكررت المطالب ولكن بواسطة دبلوماسيين فرنسيين وكانت النتيجة واحدة. حينئذ تكالبت القوى الغربية على سورية فعُمل على اغتيال الشهيد الحريري واتخذ قرار في مجلس الأمن يدعو سورية الى إخراج جنودها من لبنان ومن ثم شكلت محكمة دولية بشأن التحقيق بعملية اغتيال الحريري وكالعادة مثلما استغل الغرب محكمة التحقيق بأمور القضية الصربية, والتي كان ضحيتها ميلوشيفيتش أرادوا جعل محكمة التحقيق بقضية اغتيال الحريري محكمة مسيسة تقاد من أمريكا والموساد والأجهزة الخاصة في الأمن الفرنسي.
في البدء كانت سورية الهدف رقم واحد لهذه المهمة. ولكن بعد فشل الحرب التي شنتها اسرائيل على جنوب لبنان وعدم قدرة الإسرائيليين على تحقيق أهداف تلك الحرب وبالمقدمة القضاء على حزب الله تغيرت بقدرة قادر أنظار المحققين والقضاة في تلك المحكمة وأصبحت وجهتهم قيادات حزب الله.
وكما جاء في أكثر من مصدر- قبل بدء الأحداث الأخيرة في سورية بشهر بدأت الأوساط الغربية بإعادة الحياة لهذه المحكمة وذلك لاستخدامها في محاكمة زعامات الممانعة في سورية ولبنان عند "سقوط النظام" في دمشق كما كانت تتوقع ثلة من المعارضين السوريين (يجب أن يحصل في الأيام الأخيرة من شهر حزيران أي بعد العمليات التخريبية من قبل التنظيمات الارهابية المسلحة في جسر الشغور).
ولم تكن جماعة 14 آذار بريئة من تلك الأحداث أو جماعة (دافيد وولش) كما يسميها (إيف بونيه) المدير السابق لجهاز مكافحة التجسس في فرنسا.
لقد بدأت عملية بعث الحياة في قضية الحريري عبر عودة مفاجئة الى باريس للطاقم السوري – اللبناني – الفرنسي الذي كان مهتما بحياة محمد زهير الصديق أثناء إقامته في فرنسا. وقد ظهر هؤلاء في المقاهي الباريسية التي كانت مسرحا لأحاديثهم عن قرب موعد "سقوط النظام" في سورية وتغيير المعادلة الاقليمية. وقد تزامن حدث عودة هؤلاء مع خروج رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري من لبنان الى باريس بداية, حيث عاد الرجل الى الحماية الفرنسية المباشرة عبر جهاز (ج أي ج ان) الذي حمى والده الراحل قبيل مقتله, والذي كان عناصر منه يقومون بحماية الحريري الابن قبل تسلمه منصب رئاسة الحكومة.
وفي هذه الأثناء استدعى المحقق الدولي دانيال بلمار بعض اللبنانيين والسوريين الى لقاء أخير تم منذ أكثر من شهر في باريس وفي لاهاي حسب مصادر صحفية وتمخض عن كل هذا النشاط إعلان قرار الاتهام لبعض الشخصيات الوطنية في لبنان والغرض من كل هذا زرع الفتنة وضرب السلم الأهلي في لبنان وإضعاف حلفاء سورية في لبنان والعمل على دعم حلفاء الغرب واسرائيل في هذا البلد. دون أدنى شك هدف الأجهزة الأمنية في الغرب إشغال أطراف الممانعة بصراعات وفتن مذهبية وتحديات خارجية.
اليوم وعلى لسان السيدة كلينتون التي وجهت رسالة الى القيادة السورية مفادها أن الأمور في سورية يمكن أن تعود الى وضعها الطبيعي ولكن على القيادة السورية أن تكون "حكيمة وتنفذ بعضا من الشروط الغربية وهي:
1 . قطع العلاقة مع إيران
2 . قطع العلاقة مع القوى الوطنية اللبنانية ومع الفصائل الفلسطينية
3 . توقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل وعلى الشروط التي تراها اسرائيل مناسبة" وروح النص في تلك الرسالة روح تحد وإملاء. فهل من قيادة تحترم نفسها وشعبها يمكن لها أن توافق على مثل هكذا إملاءات؟ّّ
لا أعتقد ذلك.
هذا عن الوضع الاقليمي, أما عن الوضع الدولي فأمريكا أعني هنا الادارة الأمريكية ماضية في جعل الناتو شرطيا يجول ويصول في هذا العالم. فقد رأى القارئ الكريم ماذا فعلت طائرات الناتو في باكستان وأفغانستان وما هو الدمار الذي تقوم به طائرات هذا الحلف في سماء ليبيا وعلى أرض القرى والمدن الليبية ففي شهر أيار فقط سقط 700 ضحية من جراء قصف الناتو للأرض الليبية دون تفرقة بين الأهداف العسكرية وبيوت الناس ومستشفياتهم ومؤسساتهم ومحلاتهم التجارية ومكان لقمة عيشهم تلك هي القيم التي تريد نشرها إدارة أوباما التي من حيث الشكل والمضمون لا تختلف عن إدارة بوش الابن إذ أن الهدف واحد - حلم أمريكا في السيطرة على مقدرات العالم البشرية والاقتصادية والفكرية.
ومشروع نشر النظام المضاد للصواريخ في أوروبا الذي تحلم به أمريكا منذ أيام بوش الابن يندرج ضمن هذه الأحلام. غير أن أمريكا التي تسرح وتمرح في أفريقيا وآسيا وتقف أمامها قوى وطنية شريفة وتلقى الترحيب فقط من أصحاب النفوس المريضة لن تجد الآذان الصاغية في أوروبا.
هذا المشروع إن تحقق سوف يقسم أوروبا الى معسكرين وتعود من جديد الى عصر الحرب الباردة.
الدولة الألمانية والشعب الألماني يعرفان تمام المعرفة أنه لا عقلانية في إظهار العداء لروسيا, وفرنسا لها تاريخ طويل وتعلم مدى قدرة الشعب في روسيا على الوقوف أمام مشاريع يراد منها ترويعه.
مما لا شك فيه أن نشر منصات مضادة للصواريخ في كل من بولونيا ورومانيا سوف يقود الى زيادة التوتر في العلاقات الروسية – الأوروبية والعلاقات الروسية- الأمريكية وسوف يقود الى التوتر في العلاقة بين روسيا الاتحادية ودول الناتو.
لا شك أن كل عاقل يفهم أن سعي بولونيا ورومانيا نحو نشر نظام المنصات المضادة للصواريخ على أراضيها لا ينبع من حرصهما على مسألة الأمن الأوروبي بل من خوفهما الخرافي من الخطر القادم من الشرق. لابد هنا من أن نذكر القادة العسكر والمدنيين في كلا البلدين أن نشر النظام المضاد للصواريخ الباليستية على أراضيهم لن يكون مصدر أمان وأمن لشعوبهم لا بل العكس هو الصحيح إذ أن مواقع تلك المنصات وما هو بجوارها على مئات الكيلو مترات ستكون هدفا أوليا للصواريخ الإستراتيجية وللصواريخ النووية التي في حوزة الجيش الروسي ولا أعتقد أن هذا الأمر يعفي حتى جيران تلك الدول من هذا الخطر إذا أعطت الدولتان الموافقة وقالت نعم لمثل هكذا مشروع.
القيادة في روسيا الاتحادية تؤكد على أن موضوع نشر مثل هكذا منظومة يجب أن يكون مجال بحث ليس على مستوى الحكومات القومية في أوروبا بل على مستوى مؤتمر أوروبي عام يبحث مسألة الأمن الأوروبي بصورة شاملة.
إن إعادة الروح الى مشاريع بوش الابن من قبل الرئيس أوباما إنما يدل دليلا قاطعا على عودة أمريكا
من جديد الى نهجها العدواني في سياستها الخارجية.
إن الحقائق والوقائع منذ أيام انهيار الاتحاد السوفييتي الى يومنا هذا تدل دون أدنى شك أن أمريكا ذاهبة الى مشروع الهيمنة العالمية وما قصة نشر النظام المضاد للصواريخ في أوروبا إلا لبنة جديدة في هذا المخطط الكبير.
قد لا يغيب عن أنظار الساسة في البيت الأبيض كما في قصور الحكم في بولونيا ورومانيا أن نشر تلك المنظومة ليس فقط لا يجلب الأمن لدول أوروبا بل يعيدها عشرات السنين الى الوراء.
لعلك أخي القارئ تكون حريصا دوما على معرفة اسباب سياسات أمريكا العدوانية في أفريقيا وآسيا وكذلك في أوروبا وترفع صوتك عاليا ضدها. ولعلك تطرح سؤالا وهو- من أين يأتي الخطر؟
د اسماعيل فارس مكارم
خبير بالشؤون الروسية