جبل السيدة القدسية و الجمال
هذي طرقاتنا الجبلية المرسومة دون حرفة على كتف التلة أو المنحوتة كيفما اتفق في قعر واد هرم ... في ريفنا الجميل.. تتناثر حولها البيوت و الصخور و أشياء أخرى تشبه بيتا أومعبدا أو كوخا أو هيكلا لإله اتخذ شكلا ما و نسي أنه موجود .....حتى صار هيكله هنا أجمة أو قلعة من سنديان.
في زمن ما كانت البيوت قطيع ظباء ينزل صباحا إلى السفح يمرح في مرابع الكون .. يلقي التحية على عشب القاع و شجيرات رأس النبع و يعود إلى حيث يقيل فيغزل بساطه و يمد ظله...وحيث يطال الظل يكون المكان له .
في زمن آخر سلبت الظباء حدود ظلالها فاستحالت كثكالى ماعز تتسابق متعربشة إلى حيث تستطيع التشبث و الصمود ...فكانت البيوت المعلقة في الهواء تكاد لا تلمس أقدامها أرضا ....كأنها لاعب خفة لا يثقل الوطء حيث تستند أصابع أقدامه خوفا على الحذاء .
اليوم عاد النسيم يحرك خصلات شعر الصبايا و يفك شخوص العيون .....و عاد القطيع حر التنزه صعودا و هبوطا....و على مساحة الأفق ... فالأفق عاد ملكا له بعد أن أممت أبعاده الأربع ....في زمن خير عميم .. ليجعل من قرانا لوحات عفوية توحي لكل ناظر بمنظر...يألفه و يرتاح له .
طرقاتنا هذه تشهد من عام لعام أفواجا تتواعد فيها وجوه ألفت بعضها بلقاء للمحبة المجانية ..كل يجمع ما لديه من ود فاض على مدى عام من الدرس أو الغربة أو العمل...و يحمل ما لديه من طيب و رحمة علقت في حوائجه أو في محيط قلبه و عقله ....يمر على هذي الدروب و ينثر ما ينثر على أطرافها فيأخذ مما نثر من قبله و يعطي مما لديه للآخرين .
حجيج ملون ترفده كل أنسام البلاد من الجنوب في ريف درعا و السويداء إلى الشمال و الشرق من حلب و القامشلي و الحسكة مرورا بدمشق و ريفها من صيدنايا و معلولا و الجديدة إلى حمص و حماه و ريفهما...أرتال من الشباب و الصبايا ..رجال و نساء و اطفال... مدعوون إلى الصيف و جمال الطبيعة و مناسبات الأعياد المباركة....فترى عائلات بكاملها أو شلل أصدقاء يأتون بوسائل نقل مختلفة ...تدب بها الحياة و كأنها سيل دم جديد يغذي شرايين الأرض ...تفرح الأشجار التي عاد إليها من يستظل بظلها.
و إلى جبل السيدة العذراء يصعد المحبين إلى سيدة النجاة.. طاهرة الروح ..مانحة الخير.. أم النقاة ..يد المعونة و البركة ...يمضون إلى المكان الذي كرس ليكون لها, سيرا على الأقدام, بعد أن تساووا إذ نزع الغني سيارته الفارهة فساوى من قدم على دراجة أو من جاء ماشيا ...
باقة زهر كبيرة من كل جنائن الأديان مسيحيين و مسلمين... مؤمنين أو مسالمين ..يتحركون كزهور تباع الشمس تستقون من نور الرحمة قبس و يتآخون في رضاع نوراني ..أخوة حقة .
كنا نرى أرتال الدرجات منذ كنا أطفالا تشق سكون الضيع , و نعرف من طلائعهم أنهم شباب حلب أو أهل محردة أو وفد من حماة يعبرون الطريق من سهل الغاب إلى مصياف و يسيرون على سفح الجبل صعودا إلى شلالات البيضا و البستان إلى عاشق عمر و عين حلاقيم ثم إلى المشتى و الكفارين, يزورون في عيد السيدة دير أمنا العذراء في الجبل, يضعون أحمالهم و يأخذون البركات ثم يزورون أصدقائهم و أقاربهم في القرى المحيطة بالجبل ,و يعودون محملين بتفاح مبارك و خبز من تنانير معبقة برائحة الزعتر و حطب السنديان .
خط العودة قد يكون عبر الهبوط شرقا من عيون الوادي إلى الجويخات فبرشين و مرمريتا و بقية قطع الجنة الموزعة هناك ...و يمرون على مطالع قلعة الحصين و دير مار جرجس (الخضر) .
هذا الطقس السنوي كان عرسا جميلا لأنه يجمع أكبر عدد من شباب بلادنا و خاصة ممن يجيؤون من المغتربات و هو يشبه و يكمل عرس أعياد السابع عشر من نيسان (عيد الرابع) و أعياد الربيع و النيروز في آذار التي يبدي فيها الناس المحبة و التسامح و التشارك و الاندماج في ما يفرح الوطن و يعزز ملامح وحدته و ينبذ كل طقوس الفرقى و الاختلاف الذي يسبب ضياع الحب .
اليوم نسمع أصوات الدراجات النارية تشق سكون مدننا الآمنة.. فنخشى من طيور ظلام ينشرون القتل و الخوف.. هؤلاء الذين لا حج لهم يحجون إليه ..ولا دينا لهم يخلصون و يروجون له من خلال أياد بيضاء تمتد للآخرين ..هؤلاء من يفتى لهم بأخوة رضاع من نوع آخر ( رضاع الكبير) و يفتى لهم بأنه بذكر الله ( بالتكبير ) تهدم معابد الرافضة على رؤوسهم ..هؤلاء الذين يعتبرون من لا يمسك في يده اليمنى مداة وفي يده الأخرى رأسا مقطوعا لأحد الرافضة ..ليس منهم ..ومن ليس منهم رأسه و عرضه حلال لهم ..و لو كان ابن سبيل ...يوقف في عرض الطريق و يقتل ...(محبة في الله) ....هؤلاء من يزرعون برودة الأرض و دفئها جليدا و ناراو و يحيلون الحياة رمادا بلون دمائهم الملوثة .
الخير في ذكر الله, و الاعمار و ليس الهدم في ذكر الله, و النبي محمد صلى الله عليه و سلم, صاحب رسالة الاسلام, أصر على أنه جاء ليس لينشر دين التوحيد فحسب, و إنما ليتمم مكارم الأخلاق فأين من يهدد أمن البلاد و العباد من الخلق الذي كان يدعو إليه النبي الأمين...
لأم النور ..أم المعونة ..أم الخير و البركة ....و لنبينا الكريم شفيع الأولين و الآخرين ..نحن أبناء هذه الأرض ...ندعو الله أن تبقى عيونه على بلادنا, و على شعبنا, و على من يحمل هم هذه البلاد لينشلها مما يتهددها من شر و أشرار, و يعيد الأمان الذي لا غنى عنه و لا بديل.
في كل أنحاء العالم ...يحتفلون بعيد السيدة العذراء ...فيدعون لها من بيوتهم و أديرتهم و كنائسهم ...و نحن في سورية ..نتوجه إليها وجها لوجه نزورها في دارها ... فكل بيت سوري و كل قلب سوري هو جامع و دير و كنيسة تفيض محبة و تشع نورا.
في يوم ...أم المسيح ..مخلص بني البشر من آلامهم..... رسول المحبة و السلام .
كل عام و سورية و أبنائها بخير.