تأتي تصريحات الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة في فترة من الزمن لا تشبه من حيث التركيب و الظروف ما سبقها من فترات قريبة شهدت فيها الأحداث في سورية تصاعدا داخليا كان يتناغم بشكل كبير مع تصعيد خارجي.
هي سيمفونية تعودنا عليها، تبدأ عادة بإطلاق صرخة أو فكرة في بيت أبيض ما.. لتترد في بيوت أخرى بيضاء و سوداء..و (خيماء) ، تلحن بأصوات المنشدين المنادين بحقوق ما يسمى بالإنسان، ( فهم طبعا سوبر إنسان) ،أو بالمطالبة بوقف الجحود الذي تمارسه السلطات السورية تجاه الحب العنيف الذي يبديه بعض أبنائها السوريين تجاهها.
هؤلاء الأبناء الذين شعروا بقليل من الملل من طريقة التواصل و التعبير عن المحبة، فيما بينهم، و فيما بينهم و بين السلطة ، فأرادوا أن يعبروا عن أرائهم بطريقة تكسر روتين الشكوى اليومية ،و استخدموا وسائل مستقاة من تراث الواقع و البيئة التي يعيشون فيها ..فليس من المنطق أن تخرج لتعبر عن رأيك بدون مؤثرات سمعية و بصرية ، و بالطبع فإن (المنتجين) و من أجل تخفيف تكاليف الانتاج ،و من أجل محاكاة أدق للواقع يعتمدون على الأدوات المتوفرة بين اليدين..ساطور ، بلطة، شنتيانة، سكين ، ديناميت ..إلخ.
و تكتمل السيمفونية بالفكرة التي انطلقت من مكان داكن ما، لتصاغ بحسب الحالة الإنسانية المتوقعة في لحظات انتعاش العازفين ، لتصبح الفكرة قطعة بيتزا إيطالية ، أو وليمة جبن فرنسي، أو حتى... (منسفا )عربيا، فالمطابخ التي تبرعت بالعزف تجيد صناعة الوصفات ،و تعرف كيف تقدمها في سورية ، كما قدمتها في أماكن أخرى، من ولائم ربيع الثورات العربية الأطلسي .
حتى وقت قريب كان الاندماج واضحا بين (قواد) الاوركسترا و بين العازفين من جهة ، وبين العازفين و أدوات العزف من جهة أخرى، وقد تبين أن تلك الأدوات ليست مجرد قطع مادية منتقاة من الواقع، بل هي أبدان تكاد تدب فيها الروح،عندما تنطق ، فتزيد نغما على النغم الذي أراده العازف، فترى الأنصال و الأوتار تجود بألحان تقنع فيها الأرواح بمغادرة الجسد، ثمّ ُتسْكرها فتجعلها تيماء هائمة لا تجد جسدا تعود إليه...، و هكذا يرقص الجميع .
حتى وقت قريب نأت بعض المكاتب البيضاوية عن الإدارة المباشرة لهذا الاحتفال، و اكتفت بتكليف بعض المكاتب المستديرة، أو المربعة، بإدارات قصيرة القامة (إذا ما قورنت بارتفاع قامة برج إيفل، أو بطول لفافة السباغيتي ( المعكرونة )) بقيادة الاوركسترا ... فليس هناك داع للمبالغة بالطول و العرض، و إن كان من المفيد استخدام (الإكس سايز) في بعض الأحيان لملء فراغ ما، و هذا بالضبط ما حصل حيث كلف أحد المندوبين لملء دشداشه فضفاضة، ساهم في زيادة اتساعها ابتعاد رأس ساكنها عن قدميه ،وساهم في انتفاخها أدوات ساكنها الصوتية المسموعة من أقصى جزيرة في بحر العرب إلى أوطأ عقال على شط الخليج.... مندوب من خيمة عربية بعض الشيء، و لكنها بيضاوية للغاية.
عزفوا كثير ..و انسجموا كثيرا ....سكرت أرواح ...تاهت أرواح ...و وزعت مناصب و مكاسب ..و كان هناك نشوة لانتصار تصاغ درجاته و معدلاته بعدد الجراح التي تسبب بها ...و بكثافة الدخان ...و غزارة الدموع .
في مرحلة لاحقة لم يقتنع الجسد السوري بسطوة الجرح، و لم تحجب الدموع ما يكفي من نظر ،و الدخان اضطر للانقشاع ...وإذا به يخفى في ركابه ولادات لنشئ جديد لم يجد فرصة يقضيها في حضن أو حاضنة ...خرج إلى حقول الحياة لينزرع بين نبات هذه الأرض و ليكون كما تشتهي تضاريسها ..حبقا يطيّب النسيم... أو ريحانا و غارا يكلل جبينا تخضب بالعزّة فتمادى اخضرار، أو جيشا الكترونيا ، أو شوكا ٌيُنقشُ قهرا على كف المسافر في مركب الأشرار....أو عوسجا...يزيد في حلق المهين..... طعم الحياة .... مرار .
و أخيرا ...خرج عن صمته الداكن ...ذاك المخبأ في وضح النهار ...و توالت التصريحات ..و العقوبات ..و التوعد ....و الوعيد ، و قيل له ...أتيت بالكثير و لكن ....لم تأت بجديد ..أمريكا تريد... و الغدر يريد .....ولكن شعب سورية يريد ... و لا يفل الحديد إلا الحديد.
في مرحلة ...جديدة ....أدخلوا على الخط نسغين إضافيين ، كانا ك (أوباما) يختبئان...لكن في الظلام ... خلف (الذقون المستعارة) ..أحدهما ينتظر قدوم عصر جديد من عصور السلاطين... فأنقره لم تنعم بما نعمت به استانبول من سؤدد و مجد، و كيف لهذا الجيل التركي العريض أن يقتنع بأنه ابن ذلك العهد التليد ،و هو بسروال مختصر... ليس يدري إين سيقوده... أ إلى أوربا !!! أم إلى البرد الشديد ؟
و آخر قادته اللحى الحمراء ليعيد عصر (هارون الرشيد) ...فدمشق و بغداد ليستا أعظم من الرياض،و في القصر الملكي هنا ( راشد و رشيد )... لكن انتظارهما طال و طلائع البشرى لما تعود .
اليوم يعودون للعزف و كأن الصافرة النهائية لم تجلجل أسماعهم، لقد انتهت أشواط اللعبة، و انتهى الوقت المستقطع ،و أجريت ضربات الترجيح، فلماذا مازالوا يجرون خلف الكرة و يتدحرجون معها؟ أين التنسيق فيما بينهم؟ ما قيل قيل.. و الباقي نقيق .
إن استمرار التحريض ..و تتابع التصريحات الأمريكية و الأوربية خرجت حتى عن حدود (العمل الهمجي المنظم) فوصلت إلى حد مطالبة هؤلاء بتنحي الرئيس بشار الأسد ...بشكل تكاد السخرية منه لا تفيه ، يدل على الإفلاس، في وقت سئم العالم هذه المسرحيات و ما عاد أحد (إلا من يريد أن يعذب نفسه ) يلتفت إلى ما تنقله وسائل الإعلام الرخيصة من تصريحات.
و يذكرنا ذلك بطرفة سمعناها عن أداء أحد المخبرين من جهاز أمن ما، حيث كلف بمهمة جمع معلومات في حي من أحياء المدينة.....و للتمويه تقمص شخصية بائع عرانيس ..و بدأ يعمل في جمع المعلومات ،و في نفس الوقت يصيح ( عرانس ..عرانيس) ليبيع ما لديه من بضاعة ،و بعد مدة وجيزة انتهت البضاعة التي بحوزته .. و لكنه استمر في النداء ( عرانيس ..عرانيس) .... و كان يأتي إلى(المخبر) من يود الشراء فلا يجد لديه ما يشتريه... فينفض منزعجا، و صدف أن قدم أحد الضباط المعنيين بالمهمة فحضر المشهد، فلم يفهم ما الموضوع، و اقترب من (المخبر) و سأله : طالما أن البضاعة انتهت فلماذا تصر على النداء..؟ فرد عليه (المخبر): سيدي صحيح أن العرانيس نفقت ، لكن الدوام مستمر فماذا أفعل ؟علي أن أصيح!
الحالة عكسية في قصة التصريحات الأمريكية و الأوربية (فالمؤامرة) انتهت فعلا و لم يفلح من قاموا بها بحصاد ما رغبوا به من نتائج ، لكن يبدوا أن عرانسيهم لم تنتهي و لذلك ...فهي الآن تفرقع بوشارا .
بقلم :حبيب ابراهيم