كم كان مزعجاً ذلك اليوم الذي به رأت عيني بائعة الحلوى الصغيرة (صباح) على إحدى جسور المشاة في المدينة..
صباح .. سامحيني لكني سأكتب بعضاً من معاناتك التي لا ترغبين بالإفصاح عنها لأحد وأنتِ صغيرة وبراءة أطفال العالم تتمثل بعينيك ووجنتيكِ.
سامحيني ربما سأروي بعض من شعوري تجاهك التي لا تستطيعين قراءة فحواه لأن الذئاب الذين ربّوك لم يعلموك القراءة والكتابة..
سامحيني فإني أعرف تمام المعرفة أن قصتك المأساوية لا ترضين بها لنفسكِ أو لسواك من الأطفال.. لكنك أكرهتِ عليها .. وأرغمت أن تعملي بائعة حلوة..
صباح .. طفلة كما ذكرت تكمن بها براءة أطفال العالم.. ذات العشر سنوات .. الطفلة الشقراء التي لا يليق بها أن تجلس على أرض جسر المشاة.. ولا أن تتوسد حذاءها، كما لا يليق أن تبيع بعض قطع الحلوى التي لا تشتهى فالمارة يلقون القطع النقدية الصغيرة ذات الخمس والعشر ليرات لها دون أن يأكلون الحلوى.. هذا الواقع التي تعيشه صباح في حياتها المهنية.. فلا أدري أهي تجمع من تلك الحلويات لقمة عيشها أم لقمة عيش أهلها ..
أخاها الظالم الذي رماها على هذا الجسر مرغماً إياها على إعطائه (الخسكار) يومياً ومقسماً بألا تعود إلى البيت إلا وبيدها المال والربح الصافي وإلا عاقبها بالضرب المبرح .. فبالله عليكم أي أخ هذا.
هذا بعض التعريف عن صباح التي استوقفتني – بل لم تستوقفني لأنها أنزه من تطلب ذلك - أنا الذي استوقفتها وسألتها بعض الأسئلة عن واقعها ..
ربما كنت مخطئاً لأني أججت نار الحرمان والبؤس التي كانت تعتري كيانها فأخذت مقلتاها البريئتان تذرفان الدموع النقية بعد عرضي لها أن تدع هذا العمل تحت قيظ الصيف وبرد الشتاء فتقول لي: إلى أين سأذهب إذا تركت العمل؟؟!!
سلوك صباح كان فطرياً كما أودع ربنا سبحانه فطرتنا منذ ولادتنا.. فهي عفيفة النفس لا تطلب ولا تسأل.. بل كانت فقط تجلس صامتة.. لكني قرأت قصتها البائسة من صمتها ومن عينيها الصغيرتين.. وشاءت الأقدار أن تلبس ثياب البؤس والحرمان..
ماذا أعطيك يا صباح وأنا الصغير أمامك .. ولا أجرؤ أن أضع النقود أمامك لأني أراكِ تكبريني بنظراتك وكلماتك المتزنة حين سؤالي لك.. أهل أعطيك.....؟؟ لا تكفي، ولا يكفيك أي مال بالغاً ما بلغ لأنه لن يعيد لك براءة الطفولة التي انتزعت منك .. ولأنه سيرد إلى براثن إخوتك.
هل الطعام سيجبر كسرك ويسد رمقك .. لا يكفي فإنه رغم لذته ومهما غلا ثمنه فحتماً ليس شهياً تحت مظلة جسر المشاة وفوق قطعة الورق المقوى التي تجلسين عليها..
ماذا أعطيكِ .. سأدعو الله فحسب لأني على يقين بأن عطف الوالدين لن يعود لكِ بأن صبرك لم ينسَ عند الله رب العالمين هو القادر على إعانتك ومجازاة من ألقاكِ واختار لك هذا المصير المضني..
أين البؤساء .. وأين بائعة الكبريت .. وأين القصص العالمية التي يؤلفها الكتاب العالميين بعد جرع من أقداح النبيذ ..
لستِ يا صغيرتي من الروايات بل من الحقائق .. لعنَ الله من اختار لك هذا الواقع المرير وأنت ابنة عشر سنوات وكبراعم الزهور.. سامحيني .. فإنني لم ولن أسامح نفسي مهما قدمت لكِ إذا رأيتك مرة أخرى تبكي فوق جسر المشاة وتضعين علب الدواء أمامك..
ومن الآن وصاعداً لن أصعد إلى هذا الجسر البائس.. سامحيني فإنني مثلك بشر...
جميعنا نلقي اللوم على الجمعيات الخيرية ووزارة الشؤون الاجتماعية وشؤون الأطفال لكني لا ألقي اللوم عليهم بقدر ما ألقيه على عاتق الأسرة التي اختارت هذا المسار لفلذ أكبادها.