استقيظت هذا الصباح والسعادة تغمرني، ونظرت إلى حبيبتي التي قضيت معها بالأمس أحد أجمل الليالي، على الرغم من أنني أكاد لا أذكر ما حدث فيها، رغم أنني لم أسرف في الشرب أبدا. ولكن هذا الشعور الصباحي العفوي كفيل لينقل لي صورة الأحداث بالأمس.
قمت من فراشي لأغتسل، ونظرت إلى المرآة وتأملت الشيب الذي غطى زأسي وتبسمت ابتسامتي الخفيفة التي يحبها جاري العزيز وصديقتي ويعلقان عليها باستمرار وبدأت بالاغتسال، ومن ثم نهضت وأعددت كوبا من القهوة. جلست على كرسيي الهزاز أمام شرفة المنزل في هذا الصباح المشرق أتأمل وذاكرتي بالكاد تساعدني على تذكر أية أحداث حصلت بالماضي.
أشعر بأنني صفحة بيضاء، تماما كالشعر الذي يكسو رأسي، ابتسمت مجددا وهمست في داخلي بأن هذا الشعور هو الشعور الطبيعي لحياة أي رجل بالسبعينات مثلي وصل لهذا العمر. ولكن في الحقيقة استرجعت حياتي القصيرة جدا مع صديقتي الجديدة. إنها بحق أجمل وأروع علاقة عشتها في حياتي، فصديقتي - أو حبيبتي - تفهمني تماما، وكأنها تعرفني منذ عشرات السنين. أذكر أنني تعرفت عليها منذ مدة قريبة جدا، لكنها كانت تخاطبني وكأنها عاشت معي العمر كله، وللمفاجأة أنني نسيت حياتي السابقة كلها مع زوجتي التي عشت معها منذ سن المراهقة، وللأمانة فإنني لا أذكر بعد هذا العمر كيف ومتى انفصلنا.
لم يعد هذا مهما اليوم، تكفيني السعادة التي أعيشها اليوم لما تبقى من العمر. سأبوح لكم بسر: بالأمس صارحتها بحبي لها، وطلبت منها الزواج ووافقت.
بعد اكتمال اشراقة الشمس، لبسنا ثياب الرياضة ومشينا في الحي نتحدث عن الجيران حولنا، وإذ يظهر جاري العزيز من بيته مصطحبا زوجته وأولاده إلى المدرسة. لن أخفي انزعاجاتي المستمرة من أولاده فهم يزورونني بكثرة، ولا ينفكون يصدرون تلك الأصوات المزعجة والصياح واللعب المزعج، إلا أنني أشعر تجاههم بأنهم قريبين مني، أعترف رغم ضيق أخلاقي بأنني أحبهم، فهم يعتبروني كجدهم ولا يكتفو بمناداتي بذلك باستمرار… لا أدري لماذا… لكنني أحب ذلك… أما جاري، ورغم أنه يصغرني بكثير، فهو مازال في ريعان الشباب، إلا أنه يعاملني بكل احترام ولطف، وأذكر أن زوجته تحضر لي الطعام باستمرار.
بعد جولة الرياضة الجميلة عدت إلى المنزل، وجلست على كرسيي الهزاز مرة أخرى بعد أن حضرت كوب القهوة وعدت للتأمل من جديد. دقائق معدودة وقد غفوت وما لبث أن أيقظني سقوط كوب القهوة من يدي على الأرض لأرتعد واقفا وكأن هزة أرضية أصابتني. قمت مذعورا والتفت حولي، بحثت عن حبيبتي، لقد تركتها في الفراش قبل أن أعد القهوة لكنها ليست هناك. هرعت خارج المنزل أصيح باسمها، ثم لمحت زوجتي قادمة من بعيد يجري وراءها ابني. صحت في الشارع، من أنتي، أريد حبيبتي… أريد صديقتي… وأنت؟ لماذا تسكن في منزل جاري العزيز… أين هو… من أنتم، ولم أنتم هنا…
قادتني زوجتي والإحباط يملؤني إلى المنزل، وهي تقول لي… زوجي.. حبيبي.. إنها أنا ذاتها.. أحسست بها وهي تحبس دمعتها، وكذلك ابني - أو جاري - لم أعد آميز، وهو متألم لي أيضا… أعطتني حبة الدواء… وأودعوني الفراش.. وأنا أشارف على النوم، بت استرجع بعضا من ذاكرتي الميؤس منها.. إيا إلهي.. إنهما زوجتي وابني، وتلك هي زوجته وهؤلاء هم أولاده...أنه التقدم في العمر، والعته الشيخوخي الذي أصابني، الذي جعلني لم أعد أميز الناس من حولي.. لا أعرف من أنا، ومن هؤلاء الذين حولي..
"ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " صدق الله العظيم
