إن دور وتأثير التواصل والتفاعل مع الغرب على علاقاتنا معه ونظرتنا له هام . فقد أحدث الاحتلال العثماني (1517 1918) للعالم العربي قطيعة واضحة بين الشرق والغرب وبين العرب والغرب, وعزل الثقافة العربية ...
علما بان هذه القطيعة كانت قائمة قبل مجيء العثمانيين بخمسة قرون تقريبا (من القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي حيث احتل العثمانيون مصر والشام في 1517) . وفي رأي البعض أن القطيعة كان سببها الرئيسي ليس العثمانيين وحدهم , فيما لو علمنا أن سلاطين العثمانيين بدءا من سليم الثالث في القرن الثامن عشر بدأوا بالاتصال بالغرب, ولكن المؤسسة الدينية وقفت ضدهم . فالقطيعة مع الغرب بدأت بفعل المؤسسات الدينية المختلفة في نهاية العصر العباسي, وفي العصرين السلجوقي والفاطمي (878 1075) وفي العهد الأيوبي (1169 1260) وفي عهد المماليك (1261 1517) .
ولهذا تأخر الانفتاح، والانفتاح شرط لإزالة سوء الفهم وشرط للتقدم أيضاً. فلا يمكن فهم الغرب من خلال مقالات مترجمة، وبأسلوب ركيك أحياناً، أو من خلال عدد من الدراسات، بل لا بد من التفاعل المباشر والخصب والمتواصل. كذلك لا يستطيع الغرب أن يفهمنا من خلال قراءات مجزوءة لمؤلفات سيد قطب الأخيرة التي يلغي فيها دور العقل في صنع الحضارة.
والتطرف في بلادنا له شق تعليمي، ويجب أن لا نخجل من الاعتراف بذلك علناً بعض مناهج التعليم في بلادنا، تغذي الانغلاق والتطرف والعداء للآخر. لن تُصلح الحال، إذا لم يحدث بيننا في الأوساط العربية، حوار عميق دون خطوط حمراء. فأوروبا لم تدخل عصر النهضة والتنوير، إلاّ حين ألغت ما نسميه "خطوطاً حمراء"، وحين هزّت المسلمات وأطاحت البديهيات. ولن تُصلح الحال ما لم نعتبر "الآخر" داخل البيت العربي امتداداً وليس نقيضاً. صحيح أنه في التراث العربي، توجد مثل هذه النواقص التي تعتبر "الآخر" نقيضاً وليس امتداداً. لكن التنقيب في تراثنا يشير إلى دعوات ديموقراطية للاعتراف بالآخر، وبشكل مضيء ومشرق. فالأمم لا تتقدم إلاّ إذا نظرت إلى الأمام وخطّطت للمستقبل، بقليل من الإلتفات للوراء، وذلك من أجل ربط الماضي بالحاضر.
أصبح الحوار حول الغرب ومدى أثره على أدق شؤون حياتنا من الأساسيات , وأصبح كل ذي شأن وغير شأن يدلي بدلوه في مسألة الغرب ودوافعه وأغراضه بين مفرط في التفاؤل يرى الواقع مرحلة متوسطة لنشر العدل وقيم السلام الأمريكية, وبين مفرط في التشاؤم يرى الحال الذي تعيشه الأمة لا مثيل له فيما سبق من تاريخها, ويرى الغرب كمارد سيسحق البقية الباقية من أمة الإسلام, وبين محلل للمواقف بدرجة متميزة من السطحية والسذاجة المفرطة, وآخر يتعامل مع مخططات الغرب وطلباته وتوقعاته على أنها أمر قدري لا مفر منه, وبين هذا وذاك تخرج بعض الأصوات الرزينة العاقلة تنادي بمحاولة الفهم الدقيق لمجريات الأمور ووجوب دراسة تركيبة المجتمع الغربي ومعرفة توجهاته وفهم حقيقة مراده منا, ونحن ها هنا نقف مع هذه الأصوات متسائلين ؟
هل نمتلك حقًا تصورًا واضحًا دقيقًا عن الغرب ما هو وما تاريخه؟
وكيف يفكر ويخطط وينفذ؟
وما هي الدوافع الحقيقية وراء تصرفاته؟
هل لهذه الدوافع ارتباطات عقدية أو تاريخية؟
أم هي المصالح والمنافع المعاصرة وحسب؟
ما حقيقة الصراع بين الشرق والغرب ؟
وعلام ينبني هذا الصراع من تصورات؟
وكيف ينظر الغرب إلينا؟
لقد دعت جامعة الدول العربية إلى منتدى خاص حضره مثقفون عرب كبار لدراسة سوء الفهم بين العرب والغرب، ولفتح أبواب الحوار مع مثقفي الغرب ومراكز دراساته التي تعكف على فهمنا من خلال الأبحاث المجردة، حيث يتم توليد الأفكار من الأفكار، دون تفاعل مع الناس.
وأقامت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الأسيسكو) ندوة مماثلة في فرانكفورت، وأخرى في باريس بالتعاون مع معهد العالم العربي. والثغرة الأساسية في هذه المؤتمرات هي "القذف بالنصوص"، إذ يقوم كل طرف بقذف الآخر بما لديه من نصوص، بحيث تتحول النقاشات إلى مناظرات يرد فيها كل طرف على اتهامات الآخر، وتتحول هذه الندوات بذلك إلى "محاكمات" ويصبح الحوار فيها ظهراً لظهر، بحيث يخاطب هذا الباحث أو ذاك، جمهوره العربي والإسلامي، ويفعل الكثير من المثقفين الغربيين الشيء ذاته، مع أن الحوار يجب أن يكون وجهاً لوجه، بعيداً عن التقاذف بالنصوص، ويستفيد من دروس الحياة والتجربة. فلا يجوز أن نحاور مثقفي الغرب باعتبارنا ملائكة، لم نخطئ في شيء، بل يجب أن نعترف أمامهم بأخطائنا ومشكلاتنا. ولا صحة للادعاء بأن في العالم العربي والإسلامي عداء للغرب لا شفاء منه، يعود في جذوره إلى أسباب دينية وتاريخية، فذلك ما ترغب قوى متطرفة محدودة لدينا ولديهم (وليست كلها أصولية بالمناسبة) في تعميمه.
لفهم طبيعة الغرب لا بد من التعريج على علاقة الغرب بالإسلام والعرب ؛ لما لهذه العلاقة من أثر واضح على كلا الطرفين؛ حيث لا تمر مرحلة من مراحل التاريخ إلا ونرى للغرب دخولاً في أراضي الإسلام أو فتوح من بلاد الإسلام إلى قطاعات عريضة من أراضي الغرب, فضلاً عن الانتقالات للحضارة العلمية من طرف لآخر وغيرها. والعلاقة بين الغرب والإسلام علاقة متداخلة تحكمها جملة من العوامل , والعامل التاريخي يدخل فيها كمؤثر رئيس, حيث لا بد من دراسة الخلفيات التاريخية لطبيعة العلاقة بين الإسلام والعرب بالغرب على مدار القرون الماضية, كيف بدأت وتطورت؟ وإلام وصلت؟ وكيف فهمها الغرب وأعاد صياغتها في ثقافته المعاصرة؟ ومن ثم قام بترسيخها في أذهان أفراده وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من منطلقاتهم وتصوراتهم مع ضرورة بيان حجم الخلل ومن أين أتى؟
لقد كانت تعاملاتنا وعلاقاتنا مع الشرق تجارية وثقافية ونادراً ما كانت صراع وحروب . بينما كانت علاقاتنا مع الغرب ومنذ القدم هي مزيج من العلاقات التجارية والثقافية , و الصراعات والحروب . فكنا دوماً كالأخوة الأعداء . ولاشك أن العداء والصراع بين الشرق والغرب وديمومته إلى وقتنا الحالي هو سبب هذا الوضع الحالي بين العرب والغرب . فقد كان العالم القديم ينقسم بينهم في اغلب الأحوال.
والغرب ليس وحدة متكاملة ومتجانسة . أن الغرب تشكل شيئًا فشيئًا خلال قرون التاريخ، لكنه لم يتحدد بالشكل الذي آل إليه وتطور إلى اليوم إلا منذ القرن السادس عشر, وبذا فالغرب بمفهومه المعاصر يتضمن شقين هما كل من أوروبا بشقيها الشرقي والغربي بعد اتحادهما في درجة من درجات تطور المجتمع الغربي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي التي يحكمها بالطبع التوجه الذي يدعمه المعسكر الغربي, وشق الغرب الثاني وهي أمريكا, وهنا لا بد من طرح سؤال قبل الانطلاق في تحليل المواقف ومحاولة فهمها, هل كلا الشقين يحمل فكرًا وتوجهًا واحدًا بحيث يمكننا الحكم على تصرفات كل شق بمنطق واحد؟ أم أنهما على درجة من التشابه الظاهري ولكنهما مختلفين في حقيقة الأمر في عديد من التوجهات ومنابع التصورات والدوافع فنعامل كل شق بناءً على ما يمتلك من مقومات وتصورات اكتسبها من تاريخه وموروثاته الثقافية والفكرية وهي التي تحكم تصرفاته وأفعاله؟
والجدير بالذكر أن مصطلح الغرب تعرض في الآونة الأخيرة لكثير من الهزات ما بين شقي الحضارة الغربية أوروبا وأمريكا, كل يحاول التنازع عليه أو التملص منه إلى تكتلات جديدة مثل حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي وغيرها من أشكال التكتلات, فلا بد من بيان الموقف من كل ذلك.
فيجب توضيح مفهوم الغرب فهناك غرب أمريكي ويدور في فلكه انجلترا وايطاليا واسبانيا، وهناك غرب متبلور الشخصية مثل فرنسا وألمانيا. وعموما ليس هناك عداء بين الشعوب إنما العداء بين الشعوب الإسلامية عموما وبين أنظمة الغرب الأمريكي وأبرز نقاط الخلاف أنه لا يمكن فرض الثقافة الغربية بأنماطها المختلفة على المسلمين ولا ولن يمكن تغيير الخرائط السياسية بقوة السلاح كما أن البترول يمكن شرائه لا سرقته!
وفيما يتعلق بعوائق العالم العربي تجاه معرفة حقيقة الغرب، فيمكن اعتبار الجهل بتاريخ الغرب "الديني والفلسفي والفني والأدبي..." عائقاً أساسياً، عن هذا الجهل تصدر العداوة لكل ما يصدر عن الغرب أو يمت إليه بصلة "الحداثة، العلمانية، الديمقراطية، حقوق الإنسان..." وكذلك الجزم والاعتقاد لدى المسلمين بامتلاك "الحقيقة" كاملة، واعتبار أن الغرب "كتلة واحدة" دون تمييز بين غثة وثمينة وعلمه وأيديولوجيته.
إن البقاء أسرى العموميات يحول دون معرفة علمية دقيقة وعميقة بالطرف الذي نريد محاورته أو التعاون معه أو التعارف بيننا وبينه.
أول وجوه الغرب وأهمه هو وجهه الحضاري . وإذا أردنا أن نفهم حضارة الغرب يجب علينا أن نتعرف على جوهرها. وليس لحضارة الغرب جوهر واحد، بل عدة جواهر، وهذه الجواهر تمثّلت في الحضارة الغربية في عصور متتالية، ولم تكن هذه الجواهر تتبدل الواحد بالآخر كلما زال عصرٌ وأتى عصرُ جديد. وإنما تتراكم على بعضها البعض .
ودور الإعلام هام جداً وله الدور أساسي في تحديد نظرتنا للغرب , فالإعلام الديني والسياسي لدينا هو المسيطر وهو الذي يحدد المنحى الأساسي في نظرتنا للغرب , أما تأثير باقي أشكال الإعلام الأخرى فهو متواضع ولا يستطيع تغيير هذا المنحى .
فالذي يطلع على الكتب مثل : الغرب والعالم لكافين رالي - وصانعوا أوربا الحديثة ل ب.م. هولت - و أوربا دروس ونماذج, ماذا تعلمنا - وأوربا؟ تأملات في التطور التاريخي ل ديترسنجهاز - فجر العلم الحديث ل توبي أ هف - و المقدمات التاريخية للعلم الحديث ( من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة) ل توماس جولدشتاين - حكمة الغرب لبرتراند رسل . . . الخ يمكن أن يأخذ فكرة لا بأس بها عن الغرب .
لقد نظر اليابانيون للغرب ولاحظوا تفوقه وتأثيرات الثورة الصناعية والعلمية لديه , فسعوا للاستفادة منه وتقليده وتعلموا منه . صحيح أنهم أخذوا منه العلم والهندسة و ونتائج الثورة الصناعية وتفاعلوا مع ثقافته , ولكنهم أيضاً حافظوا على ثقافتهم وهويتهم . وبذلك لم يكن لديهم مشكلة مع الغرب , بل هم نافسوه وتفوقوا عليه في بعض المجالات .
أما نحن فبعضنا وهم قلائل اعترفوا بتفوق الغرب وتطور العلوم لديه ودعوا للاستفادة منه , ولكن كان أخذهم وتقليدهم للغرب مركز على مجالات الثقافة والأدب والفلسفة , واستهلاك منتجاته , وأما في مجال العلوم والهندسة ومستلزمات الثورة الصناعية فكان في منتهى التواضع .
أما الأغلبية وهم المحافظون لم يقبلوا بتفوق الغرب مع أنه واضح , واعتبروا أنهم هم الأفضل باعتماد تاريخهم المجيد , وأنهم الآن في مرحلة تراجع وقتية وسيستعيدون أمجادهم عن طريق تمسكهم بدينهم وهويتهم وثقافتهم , ورفضوا تقليه ومجاراته .
والآن تأثير تسارع تفاعل الثقافات والحضارات وانتشار المعارف والعلوم الواسع والشامل لغالبية الشعوب , ونتيجة الثورة الهائلة في الإعلام , جعل تأثير نظرتنا للغرب الغير الدقيقة , يتسارع تغييرها وتصويبها . ففي المستقبل القريب سوف تضمحل الفوارق بين الشعوب وأمم الأرض كافة