الدولة هي بنية متماسكة لها خصائصها , ولكي تستمر وتنمو وتتطور , فيجب المحافظة على وحدتها وتماسكها وتغذيتها وتنميتها عن طريق إدارتها ( السلطة السياسية ) .
وهذا يتم عن طريق عمل أفرادها فهم المسؤولون عن نموها وتطورها ونجاحها , وهذا يعتمد بشكل أساسي على أن يكون انتماؤهم الأول إلى هذه الدولة . لذلك كانت الدولة التي تعتمد على الأسرة أو القبيلة الواحدة هي أساس تشكل الدولة , لأن الانتماء الأسري والقبلي واضح وقوي .
طبعاً يمكن أن تكون عوامل أخرى أهم وأقوى كالمصالح أو العقائد وغيرها .
وعندما تتوسع الأسر ومن ثم العشيرة أو الجماعة بشكل كبير يصبح الأفراد البعيدين عن المركز رأس الأسرة انتماؤهم أضعف من الموجودين في المركز عندها الانتماء الموحد يصبح مهدد , وهذا نتيجة اختلاف المكاسب التي يحققونها من انتماؤهم للعشيرة أو الجماعة التي تصبح بمثابة إمارة أو دولة صغيرة . عندها لابد من وجود تشريعات وقوانين وأنظمة تحقق تماسك ونمو الدولة .
أن الفرق الأساسي بين أنظمة وإدارة أو حكم الدولة قديماً وأنظمة الحكم حديثاً هو : تطور وتوسع فاعلية التشريعات والقوانين , وظهور أو ولادة مؤسسات الدولة الحديثة و المتطور ( الوزارات والجمعيات والهيئات . . ) .
إن الدولة قديماً وحديثاً لا تحكم من قبل إرادة قائدها أو قادتها فقط , فالأعراف والتقاليد والعقائد والتشريعات ( أي الموروث الاجتماعي ) لهم دور أساس وتأثيرهم الهام أيضاً . والدول الآن غالبيتها ( وبشكل خاص الدول الناجحة أو المتقدمة ) تحكم من قبل الدساتير والتشريعات والقوانين والمؤسسات , ودور القادة وإرادتهم للدولة محدود بشكل كبير , وإن نسبة إرادة الأفراد وحريتهم في إدارة الدولة ونسبة دور القوانين والتشريعات والمؤسسات تسير في زيادة نسبة دور المؤسسات والقوانين . فالخيارات المتاحة للحكام هي دوماً مقيدة بالتشريعات والقوانين والأنظمة
( هذا بالنسبة للدول المتطورة والناجحة ) , وتبقى خياراتهم المتاحة هي في المجال الذي لم تحدده التشريعات والأنظمة والقوانين بصورة دقيقة وواضحة , عندها لهم الحرية في اعتماد الخيارات التي يرونها مناسبة .
فقادة الدول وحكوماتها تدير أمور الدولة حسب التشريعات والأنظمة والقوانين والأعراف الموجودة , ويستطيعوا اتخاذ الخيارات والإجراءات التي يريدونها عندما لا توجد قوانين وتشريعات لتحقيقها . فإعلان الحرب غالباً ليس له قوانين وتشريعات دقيقة ومحددة موجودة , فهو مرتبط بالأوضاع والظروف المستجدة , ومدى تقدير القادة لهذه الأوضاع , لذلك يكون قرار الحرب من قبل القادة أو الحكومات .
إن أهم عوامل التي تجعل بعض الدول العربية دولاً فاشلة هو :
ضعف الانتماء للدولة نتيجة تعدد وتضارب الانتماءات , وهذا العامل هو الذي يصعب ويبطئ بناء دولة المؤسسات والقانون .
أن اللغة العربية ليست كافية لبناء انتماء موحد قوي , ولا توجد قومية عربية كما يدعي البعض , فهناك جماعات كثيرة لها انتماءات مختلفة . والانتماء للدين الإسلامي والتشريع الإسلامي لا يكفي في الوقت الحاضر لبناء دولة ناجحة .
البعض يرجع سبب عدم تقدم غالبية الدول العربية وفشلها إلى طبيعة العقل العربي التي لم تقبل التجديد والتطور . وتمسكها بالأصول والمحافظة عليها . لكن هذا غير دقيق وهناك الكثير من الدلائل التي تظهر عدم دقة هذه الفكرة .
والديمقراطية والعلمانية ليسوا من العوامل الأساسية لنجاح الدولة .
كيف يمكن تحقيق الديمقراطية بوجود انتماءات متعدد ومتضاربة وقوية , ولا تتفق أهدافها ودوافعها مع دوافع وتوجهات الدولة ككل , كانتمائها لدولة أخرى أو بينية خارجية , وفي نفس الوقت لا يوجد دستور ومؤسسات وقوانين مناسبة وملزمة للجميع . إن هذا صعب جداً .
وتكمن مشكلة أغلب الدول العربية بالدرجة الأولى في الموروث الاجتماعي الذي جعل الانتماء للأسرة أو العشيرة أو الجماعة , أو لدين أو ملة . . .الخ , قوي وأقوى من الانتماء للدولة , وهذا لا يمكن تغييره أو تعدله بسهولة .
فالذي يحصل يقوم الأفراد بالسعي لتنمية البنية التي ينتمون إليها , وهم يضعون السعي لتنمية دولتهم في درجة متأخرة , هذا إذا لم يقوموا باستغلال الأوضاع لتنمية البنية التي ينتمون إليها على حساب دولتهم حتى وأن أضروا بها . وطبعاً هذا يعيق تقدم الدولة ككل لأن جهود وقدرات الأفراد غير مستخدمة لتنميتها بشكل جدي وفعال .
لذلك قضية بناء الدولة والانتماء القوي الدولة هو , المهمة الأساسي التي يجب الاهتمام والتركيز عليها , وهذا ليس بالأمر السهل أبداً , وتحقيقه يلزمه توفر عناصر وعوامل معينة , ويحتاج لوقت طويل وعمل وتضحية من قبل الأفراد . فبناء دولة المؤسسات والقوانين والتشريعات المناسبة والتزام الجميع الأفراد بها وتنفيذها , هو الأمر المهم والأساسي , وتأتي قوة الدولة ونجاحها من مدى تحقيق ذلك .
أما الموارد والظروف الطبيعية ومدا تطور وثقافة وحضارة الأفراد . . , كل هذا لن يكون له جدوى وفاعلية مؤثرة إذا لم يتحقق بناء دولة المؤسسات والقوانين الملزمة للجميع .
فالانتماء القوي هو الضروري والهام في أول الأمر , وهذا هو الذي يسمح ببناء دولة القانون والمؤسسات . وبعد نشوء هذا الدولة , عندها ليس مهماً كثيراً طبيعة وخصائص انتماءات الأفراد القوي للدولة , لأن الدستور والتشريعات والقوانين والمؤسسات العاملة بفاعلية هي التي تماسك وتقوي الدولة .
التجديد والتطور هو المطلوب الآن
أننا نلاحظ كافة شعوب الدول والأمم تسارع لتبني التجديد والتطوير بهدف تحقق التقدم بأسرع وقت , وقد حققت كثير من الشعوب التجديد والتطور وبالتالي التقدم . وتدعي كافة الدول العربية بأنها تسعى للتجديد والتطور , ولكن الواقع يظهر غير ذلك . فملاحظ هو البطء الشديد في التطور والتقدم لدى غالبة الدول العربية , وأن المحافظة على الموروث الاجتماعي والثقافي غير المناسب هي الغالبة . وكلما تباطأنا في المسارع إلى تجديد الحقيقي والفعلي وبشكل خاص بتجاوز الموروث الاجتماعي والثقافي والفكري غير المناسب , كلما كان تقدما أصعب وأبطأ .
يمكن أن يقول الكثيرين أن هذا مرفوض : فالمحافظة على ترثنا وثقافتنا وعقائدنا هو المهم والأساس .
نعم ترثنا وأصولنا وعقائدنا هامة جداً , ولكن عندما يكون بعضها هو أساس إعاقة تقدمنا , عندها يجب التعامل معه وتعديله أو تغييره.
ونحن الآن مطالبين في هذا الوضع العالمي الموجودين فيه , و في هذا التنافس والصراع الذي انخرطت فيه كافة دول الأرض : المسارعة إلى الانخراط في هذا السباق أو الصراع الذي هو صراع وجود .
لقد أصبح وجودنا مهدد إذا لم نبادر ونسارع في الانخراط في هذا التنافس العالمي , شئنا أم أبينا .
فالتطور وتجاوز الموروث الاجتماعي والثقافي وحتى العقائدي " غير المناسب " مفروض علينا من قبل قوى كبيرة خارجية .
هل نتمسك بأصولنا وترثنا كله مهما كان الثمن ؟
أم نسعى للتطور والتجديد , مع تطوير وتجديد ما هو بحاجة إلى ضرورة تجديده وتطويره ؟
لكن السؤال الهام هو :
المناسب لمن وغير المناسب لمن ؟
وبالنسبة لمن ؟
المهم والمناسب الآن هو :
يجب أن يكون الانتماء للدولة ( دولة المؤسسات والقوانين والتشريعات الملزمة للجميع , والمساواة والديمقراطية ) هو أول وأقوى الانتماءات . وكل ما يعزز ويخدم نمو وتطور الدولة , بالإضافة لمراعاة مصالح وتوجهات الأفراد , يكون هو المناسب .
وكل الانتماءات الأخرى التي تكون أقوى من الانتماء للدولة , أكانت للأسرة أو العشيرة أو البلدة أو الدين أو عقيدة معينة أو لفئات ذات مصالح مشتركة أو غير ذلك , هي غير مناسبة .
وليس ضرورياً أن تكون الدولة علمانية وتمنع الدين من التدخل في أمور الدولة , يمكنه التدخل إذا كان ذلك يفيد ويساهم في تقدم وتطور الدولة ككل , فالدين والعقائد ليست المشكلة كما يظن البعض . فكثيراً ما أساء وأعاق من يدعي العلمانية إلى الدولة . وهذا من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات .