news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
حبة الغار ... بقلم : أحمد عودة

بدأ صوت الطفل الوليد يعلو و يعلو و أمه تجثو بالقرب منه تحاول صم أذنيها عن بكائه و تتمنى من كل قلبها لو يصمت هذا الصوت للأبد فهذا الصوت يصعّقها و يزيد من بؤسها و شقائها .


أشاحت بوجهها عن وليدها و وضعت يديها فوق عينيها تحاول جاهدةً مسح صورته من مخيلتها و نسيان لون عينيه و تقاطيع وجهه فتلك الملامح تصيبها بالرعشة و الغشيان و تذكرها بما كانت تحاول ألف ألف مرة  أن تتركه وراء ظهرها و تنساه .

 

و يستمر الطفل بالبكاء و صوت نحيبه بالارتفاع و يزداد معه حقدها على طفلِ رضيع لم يتجاوز أسبوعه الأول و لم تعتاد عينيه على نور الحياة و لا يعرف من أين جاء و لماذا هو ملعون بالذات .

 

حاولت تلك الأم المسكينة أن تكون كباقي الأمهات وضعته في حضنها و جاهدت لإرضاعه مثل باقي الأطفال لكنها لم تستطيع حتى أن تنظر إليه ولا أن تشم رائحته و أحست باشمئزاز كبير و شعرت كأنه علقةً قد التصق بصدرها و تعلق بثدييها و سطا على حليبها .

و يستمر الوليد بالبكاء و كأنه يسأل كل من حوله سر هذا الجفاء و بأي ذنب قد جاء و تنظر إليه أمه و لا تدري ماذا تفعل به هل تطمره في التراب أو ترميه في العراء و تريحه من مشوار طويل من العذاب و العناء.

 

إن بطلة قصتنا ليس كما تظنون امرأةً قاسية القلب متحجرة الفؤاد و لا هي بالمرأة المعتوهة التي لا تميز بين الخير و الشر إنما وهبها الله من الحب و الحنان ما يفيض على البشرية و من العقل و الاتزان ما تحسد عليه من كل الرعية.

و لكن لكل منا حكايته و قصته فما هي حكايتها و من أين تبدأ قصتها .....

 

تبدأ قصتنا مع تلك الصرخة المدوية التي أطلقتها الأم الشابة في المشفى بعد أن شاهدت أول مرةً وجه وليدها و لمحت بطرف عينيها شفاهه الغليظة وعيونه الملونة و لونه الأسمر الداكن و قرأت على جبينه تفاصيل ذلك اليوم الأسود الذي لن تنساه أبداً و كيف تنسى أول يوم عادت به للعمل بعد شهر العسل كانت في أوج سعادتها و قمة تألقها و جهها النضر يضج بالفرح و يشع بالنور و ضحكتها الجميلة تملئ المكان و ترن بكل الآذان و هي من فرط سعادتها و قمة براءتها لم تدري إن لكل شيء جميل عمر قصير و إن الزمن الذي يمنحنا القليل من الفرح يخبئ لنا في طياته القادمة الكثير من الحزن و الطويل من الألم .

لم تلاحظ عروسنا الجميلة يومها تلك العيون التي تراقبها من خلف الزجاج فقد كان رب العمل يبرم شاربيه طوال النهار و يتوعد فريسته و ينتظر ساعة الانقضاض و طال به المقام حتى نهاية الدوام حيث طلب منها الانتظار بحجة تصحيح بعض الأوراق و بعد أن غادر أخر عامل قام و أغلق ورائها ألف باب و باب و استغل طيبتها و حاجتها للعمل وامتص اللون الأحمر من شفتيها و أضافها  إلى قائمة العاملات التي شهدن رجولته و عرفن فحولته .

 

أما هي فقد لاذت بالصمت لتداري سوء فعلتها و تستر فاحشتها و تحول دون فضيحتها و استغفرت ربها ما شاء الله لها من الاستغفار و عضت بأسنان الخيبة على شفتيها و حاولت بكل ما استطاعت أن تسقط ذلك اليوم من قاموسها و أن تمسح تلك الذكريات الأليمة من رأسها تركت العمل و جاهدت بعد ذلك بكل ما تملك المرأة من الحنان و العطف أن تعوض زوجها عن حقه المسلوب و شرفه المطعون و كنزه المفقود عسى أن يتوب الله عنها و يغفر لها زوجها ذلك الذنب الذي لم و لن يسمع به للآبد .

 

و عندما علمت بأنها حامل أحست بأن هذا الطفل يمكن أن يكون أجمل هدية تقدمها لزوجها و عربون محبة لمن أعطاها اسمه و أمّنها على شرفه وأسكنها في بيته.

و لم يخطر في بالها يوماً إن تلك البذرة الشريرة قد تمكنت منها و إن الذي ينبت في أحشائها إنما هو سرطان خبيث سيطبق على أنفاسها و ناقوساً يدق كل لحظة و يذكرها بفاحشتها.

 

وان أشد ما كان يحزنها و يجري كالشوك في عروقها هو تعلق زوجها بهذا الطفل الوليد وسهره الليالي على راحته و تقديم الدواء و الرعاية له و ليعوضه عن حنان أمه الذي ظن إن حمى النفاس قد حلت بها و أخذت منها كل مأخذ و أبعدتها عن رضيعها و تركتها حزينة شاحبة لا يغمض لها عين و لا يرف لا جفن و لأن المصائب لا تأتي فراده فقد أصر الزوج أن يعطيه و بكل فخر اسم أبيه قالت له: لا .. لا و لكنه لم يسمع لصوتها صدى و لم ير لكلامها معنى .

قد ضاق صدرها من حمل أسراره و تعب جسدها من حمل أوزاره و تمنت ألف مرة أن يكون كل ذلك مجرد حلم مخيف أو كابوس مرعب ينتهي عندما تستيقظ و لكن هيهات فهذا الضيف الثقيل ما زال يبكي أمامها و يثقل كاهلها لا تعرف له حلاً و لا تجد له سبيلاً و وداً .

 

إن الفضيلة إناء سريع الكسر و لا يصلح فيه الرأب ينكسر مرة واحدة و تملئ شظاياه كل نفس شريفة و كل روح أبيه وقد أصابت تلك الشظايا قلب هيام و أحالته إلى كومة سوداء فلم يعد يروق لها ضوء الشمس و لم يعد يغريها سدول الليل كانت في كل لحظة تخاف أن يقرأ زوجها على جبين وليدها و في عينيه ما لم تستطيع أبداً أن تمحيه أو تداريه .

 

أبت نفسها الطعام و الشراب و زهدت في هذه الدنيا و علمت في قرارة نفسها إن هذا الجسم الهزيل لا يمكن أن ينجو تحت هذا الحمل الكبير وأن الله تعالى لا يمكن أن يظلم المرء في الدارين فمن ابتلاه الله في دار الدنيا لا بد أن يصطفيه في دار الآخرة و هي لن تستطيع بعد الآن تقديم أي شيء لوليدها و لا أن تنظر في عيني زوجها فتحاملت على نفسها و ذهبت إلى مطبخها و تناولت من مكان قصي حبة غار و بلحظة واحدة تجمع بين قوة المرأة و ضعفها وضعت الحبة في فمها و بلعتها فقطّعت أمعائها و ألهبت عروقها و صبت الزيت المغلي في عيونها ورويداً رويداً انسلت روحها النقية من جسدها المتعب و صعدت إلى بارئها راضية بحكمه و مرضية بقضائه.

2011-11-13
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد