كان الجو في الخارج بارداً جداً و الهواء الشديد يعلن الحرب على كل من يتجرأ و يخرجُ من باب منزله , فأختبئ الجميع كلٌ في منزله و وراء مدفأته يحلّمون بصباحٍ أبيض جميل يكسو الثلج فيه الجبال و يرسم أحلى اللوحات على الأشجار وفي الساحات .
في هذا الوقت كان صديقنا محمد و زوجته هيام يسهرون في منزلهم في آمان وسلام و كانت الإضاءة في البيت خافتة تريح الأعصاب و هم يتابعون على القنوات الفضائية أحد البرامج العلمية حيث كان السيد محمد مولّعٌ بهذه البرامج لأنها جزءٌ من اختصاصه و عمله .
و بينما كان محمد مستلقياً على الأريكة و يداعب شعر زوجته التي تجلس أمامه على السجادة الصوفية و يرسم من خصلات شعرها الأسود الفاحم أحلى الرسوم و الضفائر و إذ به يسمع صوت بكائها الصامت , قام و أشعل النور و رفع بيديه وجه زوجته و إذا بالدموع تملى عينيها و تفيض على خديها فعانقها و شدها إلى صدره و قال لها : ما يبكيكِ يا أعز الناس و يا أغلى البنات , مسحت دمعةً كادت تسقط من عينيها و قالت له كما شاهدت حتى الأراضي الصحراوية القاحلة يمكن استصلاحها و تحويلها إلى واحات خضراء يانعة و السنبلة الواحدة بإمكانها أن تغدو ألف ألف سنبلة و إلى متى سأبقى مثل الشجرة الجرداء اليابسة تقف وحدها في مهب الريح تنتظر فأس الحطاب ليقطعها إلى أشلاء مبعثرة لأن عروقها قد نضبت و لم تعد قادرة على طرح الثمار و إلى متى سأبقى أهرب من عيون الناس و أسئلتهم المحرجة.
ضمها إلى صدره و قال لها:أن العمر أمامنا طويل و الأمل بالله كبير
أدارت وجهها و تابعت : وأي عمر سينتظرنا و قد شارفت الأربعين .
فرد عليها بلهجة لا تخلو من الحنان حبيبتي إن صحتك و حياتك هي الأهم عندي و لا تنسِ إن جميع عمليات الزرع التي أجريناها باءت بالفشل وقد رصدنا لها كل ما نملك و لم يبقَ في حيلتنا إلى هذه السيارة الصغيرة التي نقضّي بها مشاويرنا و نذهب بها للعمل وهي لن تغلا عليك أبداً هي و صاحبها رهن ابتسامة من شفتيك .
أرجوكَ اسمعني...افهمني هذه المرة لدي شعور جديد و إحساس مختلف و لا أستطيع الآن أن أشرح لك ماذا يجول بداخلي إن حرارة جسّدي و النّار التي تتقد بداخلي تمنحني هذا الأمل المفّرط أرجوك لا تجعل الربيع الأخضر يرحل دون أن يطرق بابي.
و فعلاً في صباح اليوم التالي كانت على موعد مع الطبيب الذي استقبلها بفتور ظاهر و تناسى ببساطة جميع أحاسيسها و كل مشاعرها و أكد لها إن بصيص الأمل الذي تراه بعيد المنال و نسبة نجاح الحمل بالنسبة لعمرها ضئيلة وان صحتها و قلبها أضعف من أن يتحمل مثل هذه التجربة لكن بناءاً على رغبتها و شدة إلحاحها وافق على إجراء محاولة جديدة و لكنه نصحها كطبيب مخلص للعائلة بأن تكون هذه المحاولة هي الأخيرة .
مر أسبوعان عصيبان على عملية الزرع و كانت هيام تحاول أن تشرح في كل مرة لمن حولها هذا الإحساس الجديد التي تشعر به و لم يطل انتظارها في المخبر حيث قالت لها الممرضة مبروك يا مدام فالإشارة زرقاء و أنت حامل ....
بكت من فرط فرحتا و أنسَّتها هذه الفرحة أي سعادة شعرت بها سابقاً و هي اليوم سيدة العالم و المرأة الكاملة التي لا تشوبها شائبة و إن هذا العطف و الحنان الذي يختنق داخلها سيجد أخيراً ضالته و من يبحث طوال السنين عنه.
و ما هي إلا عدة أشهر حتى بدأ هذا الضيف العزيز يدغدغ أحشائها و يقلق نومها و يأكل من طعامها أحبته حتى قبل أن تراه بدأت تسهر الليالي و هي تغني له و تسمعه أحلى النغمات و تطلب منه إلا يكون شقياً و يسمع كلام جده و جدته بدأت تتخّيل لون عينيه و شكل أنفه و هل يا ترى سيكون طويلاً مثل أبيه أم سيصبح ناصحاً مثل أخواله هي ستحبه و تعانقه في الحالتين حاولت أن تختار له اسماً لكنها لم تفلح لأن اسم ابنها هو أحلى من كل هذه الأسماء .
لم يحزن زوجها يوماً على بيع تلك السيارة لأن هذا الذي يركّل بطن أمه هو عنده أغلى من كل سيارات العالم و كل نبضة من نبضاته الصغيرة تساوي الدنيا و من عليها .
استمر شهر العسل بين الجنين و أمه ثمانية أشهر و أكثر و بدأت ساعات الفراق تلوح في الأفق و لولا شوقها لرؤيته لتمنت أن يبقى داخلها طول العمر فهو الآن جزء من لحمها و دمها وأقرب ما يكون لقلبها و روحها.
و مع اقتراب موعد الولادة بدأت حركات حبيبها تزداد و دقات قلبه تقوى و ساعات نومه تقصر يا ترى هل ملَّ وحدته و يريد أن يخرج إلى النور أم أنه يمازح و يداعب أمه... أما هي فقد بدأ التعب يرسو في مرافئها و يرفع راياته فوق وجنتها وبات قلبها أضعف من أن يتحمل دقاته و قدميها أوهن من حمل جسدها المتراخي و كان ذلك سهلاً أمام النزيف التي بدأت تشاهده فهرعت مع زوجها إلى الطبيب تبحث بجنون عن الخبر اليقين و هنا بدأ القلق يظهر على محيا الطبيب و لم يستطع ابدآ أن يطمئنها على صحتها و لكنها لم تهتم لذلك كثيراً و عادت مرة ثانية و ثالثة تسأل عن حال الجنين و هنا تبسم الطبيب و أكد لها إن الجنين بخير و دقات قلبه ممتازة و لكن خوفاً على صحتك لا نستطيع انتظار آخر الشهر و لابد لنا من إجراء العملية القيصرية فوراً.
كانت العملية الجراحية مخيفة و احتاجت هيام إلى مزيد من أكياس الدم لوقف النزيف الحاصل و مضى وقت عصيب على الأب قبل أن يسمع بكاء أحلى صوت في العالم هذا الصوت الذي طالما حلم به و انتظره حاول بلهفة أن يدخل لغرفة العمليات ليبارك لزوجته و يسّتلم من رب العباد هديته و لكن الطبيب منعه و أكد له نجاح العملية و قال مقولة الأطباء المشهورة بأنه عمل ما عليه و الباقي بيد الله تعالى .
و بعد أكثر من ساعة أستطاع الأب و من خلف الزجاج أن يرى وجه ابنه الوردي هذا اللقاء الذي تأخر عشرين سنة و في الغرفة الثانية بدأت الأم تستيقظ بعد العملية و تسأل عن وليدها و الأطباء من حولها يبحثون عن وقف هذا النزيف الصاعق الذي حل بها و بعد قليل خرجت مرة ثانية من غيبوبتها و صرخت من سريرها أين ولدي فأشار لهم الطبيب و أحضروه إلى جانبها و هنا تبسمت و هي تنظر في وجهه الملائكي و تلمس كفيه الناعمتين و بعدها ساد صمت رهيب وأدمعت عيون الحاضرين و هم يرون الأم تغمضُ عينيها بسعادة و اطمئنان و تزرع في مخيلتها صورة حبيبها الصغير وشاء القدر أن تكون هذه أخر و أحلى صورة لها في الدنيا.
تمت