"احزم الأمتعة" قالت لي روحي, وبحكم أنني نادراً ما أخالف روحي أطعت الأمر. "و لكن البرد شديد و حروب و أسلحة و أخبار سيئة" قلت هذه الجملة و أنا أحزم الأمتعة, إذ إن القرار غالباً بيد روحي, و ما عقلي سوى أنثى في أحد بيوتنا الشرقية لا رأي له ولا رغبة.
لا أذكر من رحلتي هذه سوى لحظات توجزها, أوتستراد كبير على جانبه لافتة كتب عليها "مع السلامة دمشق", ثم لافتة كتب عليها "حمص" بدأت من بعدها الألوان بالتغير من الرمادي إلى الأخضر, ثم بدأ البحر يسكرني بعطره و لافتة كتب عليها "طرطوس", وبعدها كانت لافتة "جبلة, حمّام القراحلة", ثم طرقات تصعد و تهبط فجأة, و أشجار على الجانبين تنتظرني في كل مرة منذ طفولتي فهي تعرف أنني بالتأكيد عائد, و موقف باص اسمنتي "أجهل" سبب بنائه إذ إن أقرب منزل إليه يحتاج سكانه لباص كي يصلوا إليه.
و بعد أن تجاوزت الكثير الكثير من المنحنيات وصلت إلى المنحنى الأخير, وما هي إلا لحظات حتى أصل إلى بيت تحرسه شجرة تين و شجرة سنديان, و امرأة عجوز لم ولن تهرم يوماً في قلبي, عجوز لو وزعوا ما في قلبها من محبة على زعماء العالم لضجر الناس من قلة الحروب, إنها جدتي "أم مظهر" . أنا لم أقابل يوماً أي نبي, ولم يرسل لي الخالق يوماً أي رسالة ولو حتى مشفرة, و لكنني إذا قابلت يوماً أي أحد من حاشيته فسأرسل له الرسالة التالية: "لقد حدثوني كثيراً عن جنانك و لكنني لم أرها, فإذا أردت يوماً إسكاني فيها فهل أستطيع استبدالها بحضن جدتي "أم مظهر"؟!.