والفرق الأساسي بين اللحاء والدماغ الحوفي هو اتساع وقوة المعالجة واتساع الذاكرة لدى اللحاء .
ويظل اللحاء مستشاراً فالإدارة والقيادة للدماغ الحوفي , فهو الذي يقرر المعاني وبالتالي يقرر الأهداف والغايات بشكل أساسي . صحيح أن اللحاء يمكنه إقناع الدماغ الحوفي في بعض الأحيان ويجعله ينفذ أهدافه التي غالباً ما تكون أفضل , ولكن هذا لا يتم دوماً بسهولة , فللدماغ الحوفي ثوابته الأساسية الموروثة في المعالجة والتقييم ويصعب تغييرها , إلا ضمن حدود صغيرة.
فاستجابة أو انفعال الخوف أو الغضب أو الغيرة والكثير غيرها ليس من السهل تعديلها , يمكن تعديلها خلال وقت طويل , أومن خلال تعديل العلاقات الاجتماعية المرافق . فالدماغ الحوفي يتعلم ولكن ببطء شديد ونتيجة التكرار الكثير والزمن الطويل . والضمير لدينا هو ما تم تعليمه للعقل الحوفي نتيجة الحياة الاجتماعية .
تظل القيادة الأساسية والتحكم بالاستجابات , والانفعالات بالذات , بيد الدماغ الحوفي لأنها في الأصل عمله الأساسي , وكان تشكل اللحاء لمساعدته وليس لينوب عنه . ولكن معالجة اللحاء أفضل وأوسع وأدق , ومع هذا فالقيادة والتحكم ليست بيده, فهو مستشار فقط للعقل الحوفي . وفي أحيان كثيرة لا يوافق اللحاء على استجابات الدماغ الحوفي ويحتج عليها, ولكن دون جدوى في أغلب الأحيان , وهنا يقع أهم صراع فكري لدينا وهو بين الدماغ الحديث أو اللحاء ويمثل عادة بالعقل والفكر , والدماغ الحوفي الممثل بالغريزة أو النفس .
وقدرات اللحاء لدينا الآن تنمو بسرعة هائلة نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية , سواء أكان في سعة أو دقة المعالجة أو في مخزون المعلومات . فالعقل الحديث الممثل باللحاء يستخدم المعارف والمعلومات الدقيقة التي تم التوصل إليها, بالإضافة إلى استعمال المرغبات أو المكافأة , والمنفرات أو العقوبات , كالأطعمة اللذيذة والوجبات السعيدة أو الجميلة , والتصرفات المناسبة والتي تسمح له بتعديل استجابات العقل الحوفي . فهو يدير الكثير من الاستجابات بطريق غير مباشر وعبر الدماغ الحوفي .
ومع كل هذا يظل الدماغ الحوفي هو باني المعاني الأساسي , فحتى اللحاء نفسه يطلب منه تحديد المعاني , أي أنه يبقى في النهاية هو الأساس, لأنه هو الذي يحدد الممتع والمفيد وباقي المعاني بشكل أساسي .
ما هي البنى المؤلفة للدماغ الحوفي :
لقد تطور مفهوم الدماغ الحوفي ( أو الجملة الحافية ) كثيراً ، وابتعد كثيراً عن الأصل ألشمي الذي نشأ وتطور منه . ونستطيع التمييز بين مفهومين للجملة الحافية .
الأول يدعى الجملة الحافية المصغّرة والتي تقتصر على عدد من البنى القشرية وتحت القشرية التي تتصف بقدمها من الناحية التطورية والواقعة ضمن الدماغ ألانتهائي .
والمفهوم الثاني أكثر اتساعاً فيضيف إلى ما سبق عدداً آخر من البنى تقع في تقع في الدماغ المتوسط والمهاد .
تقع بنى الجملة الحافية القشرية في الوجه الداخلي لنصفي الكرة المخيّة ، وأهم هذه البنى :
التلفيف المسنن ، قرن أمون أو الحصين ، البصلة الشميّة ، اللوزة ( التي هي أكثر النوى القاعدية قدما وتأثيراً ) ، الباحة الحجاجية ، القشرة الأمامية ( ذات الدور الهام جداً لدينا ، وهي تابعة للحاء ) .
اللوزة أو الأميجدالا
حينما يوجه شخص ما وعيه إلى العالم من حوله ، يواجه قدراً متدفقاً من المعلومات الحسية الواردة من المستقبلات الحسية : مناظر ، أصوات ، روائح ، أحاسيس ، وما إلى ذلك . عندها يقوم الدماغ بمعالجة هذه المعلومات في الباحات الحسية الموجودة في الدماغ الحوفي الذي يعالج الأحاسيس الأولية الأساسية مثل الشم والألم وغيرها ، وفي اللحاء الذي يعالج الأحاسيس البصرية والصوتية وباقي الأحاسيس والمعاني اللغوية المتطورة . ويعود ويرسل أو يرحل نتائج هذه المعالجة والتحليل إلى الدماغ الحوفي وبالذات إلى اللوزة ( أو الأميجدالا ) التي تعمل كمدخل للمنظومة الحوفية التي تقوم بتقييم مجمل المدخلات ، وتنظم الرد المناسب لها بالاعتماد على القيام بالاستجابة المناسبة ، وأيضاً تستعين بإضرام الانفعالات المناسبة لذلك .
واعتماد على المعارف أو المعلومات المختزنة لدى الشخص تقرر اللوزة المخيّة كيف يجب على الشخص أن يستجيب فكرياً وعملياً وانفعالياً ، مثلا : بالخوف ( لرؤية لص ) أو بالشهوة ( لرؤية محب ) أو باللامبالاة ( لرؤية شيء تافه ) . وتتدفق الرسائل من اللوزة المخيّة إلى باقي أجزاء المنظومة العصبية المستقلة ، التي تهيئ الجسم للعمل المناسب . فإن كان الشخص يواجه لصاً على سبيل المثال ، فستزداد سرعة نبضات قلبه و سيتعرق جسده ليبرد الحرارة الناجمة عن الجهد العضلي ، ومن ثم يرتجع ( تحدث تغذية عكسية ) تيقّظ المنظومة المستقلة إلى الدماغ ، مضخماً الاستجابة الانفعالية . ومع الزمن تنشئ اللوزة ( الأميجدالا ) المخيّة منظراً عاماً بارزاً ، خريطة تبين تفصيلات الدلائل الانفعالية لكل شيء في بيئة الشخص .
كيف يمارس الدماغ الحوفي عمله
يتم ذلك من خلال مجموعتين من العمليات : المجموعة العمليات الأولى تربط العناصر الإدراكية ذات المضمون الشعوري مع العناصر الموضوعية للمعلومات الحسية , مع الأخذ بعين الاعتبار تجارب الفرد السابقة مما يعطي لهذه المعلومات المعنى , ويسمح الدماغ بإمكانية التوقع والمبادرة للقيام باستجابة ما أو الامتناع عنها . كما تكتسب المعلومات الراهنة قيماً أو معاني وتصبح دافعاً لسلوك معين .
أما مجموعة العمليات الثانية فإنها تسمح برصد حالات النجاح والفشل , أو بمعنى آخر تسمح برصد النتائج الناتجة مع النتائج المتوقعة مسبقاً , وعندما يحصل التطابق تنشأ أحاسيس سارة و تشغّل جملة التعزيز الإيجابي , أما في حال عدم التوافق تنشأ أحاسيس مؤلمة تشغّل جملة التعزيز السلبي . وبهذا يتعزز ظهور الاستجابة في الحالة الأولى بينما ينعدم في الحالة الثانية عندما يتعرض الفرد إلى ظروف مماثلة .
مهما كان نوع التأثيرات حسية أو فكرية , فإن لها تأثير على الاستجابات ( الأفعال والانفعالات والأفكار) . فكل مؤثر مهما كان نوعه حسي أو فكري عندما يدخل الدماغ تتم معالجته , وتظهر نتائجه في الاستجابات التي تحصل .
ما هو دور الدماغ في أرادة الاختيار؟ وكيف يتم الاختيار ؟
هل يتم بناءً عل قواعد سجلت في الدماغ بالوراثة وبالتجربة, وتجبر حرية الاختيار على إتباع طرق معينة مسبقاً بالرغم من وجود وهم الحرية؟ أم الأمر غير ذلك ؟
لا يوجد تناقض بين الادعاء بوجود حرية اختيار بين ملكة إجراء اختيارات متعمدة, بين دوافع متناوبة, ومجموعة توصيلات محددة بيولوجياً في الفكر, والتوكيد بأن القيم الواصلة بين الاختيارات هي محددة بالخصائص البيولوجية للشبكة الدماغية.
إن التعامل مع الخيارات الواعية وغير الواعية , بواسطة التنبيه والتثبيط , يتم بشكل أساسي في التشكيل الشبكي, بالإضافة إلى باقي بنيات الدماغ , والتشكيل الشبكي مركب في معظمه من عصبونات متراكبة فوق بعضها ذات محاور وتغصنات شديدة القصر.
وبفضل هذه الهندسة يكون التشكيل الشبكي حسن التلاؤم مع التغير التدريجي المتقدم, لمستواه من النشاط عن طريق التعديلات البطيئة والمتدرجة للكمون الكهربائي للتغصنات (تغصنات المحاوير) ويجعل هذا التراكب الشديد للألياف العصبية, هذه البنية قادرة على تكميل إثارة تنبيه مصادر متعددة .
فالتشكيل الشبكي يتلقى السيالات الصادرة عن الطرق الحسية(واردات الحواس) في اللحظة التي تصعد فيها نحو القشرة. وعندما تعبر العصبونات الحسية الجزع الدماغي فإنها تتعشق على التشكيل الشبكي وتمده هكذا بمحاوير إضافية. والنتيجة تكون أنه في كل مرة تصعد فيها رسالة حسية, دغدغة أم رنينا.....في السبل العصبية حتى باحتها المتلقية الحسية في القشرة, فإنها تنبه في نفس الوقت التشكيل الشبكي الذي ينقل عندها حالته الخاصة من التنشيط أو التثبيط إلى القشرة, وعلى عكس السبل الحسية التي تتجه نحو باحات التلقي الحسية(في القشرة), فإن التشكل الحسي يسقط بشكل مختلف على مناطق متسعة من القشرة .
فهذه الميزة المتنوعة لتساقطاته هي التي تسمح للجهاز الشبكي المنشط إن يعمل بشكل غير نوعي , أي أن إشاراته العصبية الصادرة مهما كان مصدرها تصيب ليس فقط باحة من التلقي النوعي, ولكنها يمكن بواسطة تأثير الجهاز الشبكي المنشط إن تنشط كل الباحات الأخرى من القشرة .
" لقد اعتبر اكتشاف التشكيل الشبكي بمثابة خطوة عظيمة في سبيل تفهم الأسس المادية للإرادة , وكذلك لفهم الوعي . فوجود مثل هذا الجهاز الدماغي يبرهن بوضوح على أن الوعي(الخاص بحالة اليقظة أو أثناء الحلم) لا ينشأ عن حالة فزيولوجية وحيدة بل يتصف فزيولوجياً على الأقل بمجموعة اتصالية من الشدة المتدرجة.
فالنشاط الدماغي الذي يديره الجهاز الشبكي يمكن أن يتغير تدريجياً متنقلاً من التنبيه الناشئ عن الخطر أو الاكتشاف إلى الذهول التعب, وبعض علماء الأعصاب ذهلوا بشمولية وظيفة التشكيل الشبكي في عملية تنشيط القشرة وتنسيق الأجهزة العضلية. فكأنه برج مراقبة لا يقتصر في عمله على تنظيم اليقظة, بل يبدو إن تأثيره أكثر حذاقة, فهو يتحكم بسياق الانتباه والتفكير والتذكر."
ولكن يبقى عمل بنيات الدماغ و الدارات العصبية الجارية بين هذه البنيات والعناصر المكونة لهذه البنيات وآليات تفاعلها, معقدة جداً وأغلبها لم يتوضح بعد بشكل دقيق .
بنية التشكيل الشبكي
يحتوي جزع المخ أسفل الجهاز الحوفي على التكوين الشبكي الذي يستقبل المعلومات الحسية ويعمل كمصفاة خاصة بالنسبة للسماح أو عدم السماح للمعلومات الجديدة أو غير المتسقة بالمرور .
لقد اقترح جراي نموذجاً لكيفية تفاعل المكونات المختلفة للجهاز الحوفي , فرأى في فرس البحر أن "دائرة بابيز" التي تربط تكوين فرس البحر بباقي مكونات المخ أنما تعمل كأداة رقابية حيث تتابع السلوك الحادث والمعلومات الآتية من العالم, بحيث تتأكد من أن السلوك يسير وفق خطة أن المعلومات عن العالم تتوافق مع التوقعات. وفرس البحر ينظر إليه على أنه يقوم بدور وسيط يصل بين الانفعالات وبين العمليات الفكرية المصاحبة لها , أي الأساس المعرفي للانفعالات , فهو يقوم بوظائف يمكن وضعها في خدمة انفعال القلق أو بتعبير آخر فحينما ينتابك القلق تجد نفسك منخرطاً في نوع من عمليات التفكير, وهي عمليات تجري في فرس البحر.
هناك علاقات متبادلة متعددة بين جمل التعزيز الإيجابي والسلبي من جهة , والجملة الحافية من جهة أخرى . بسبب الدور الذي تلعبه هذه الأخيرة , في تسجيل النجاحات والفشل , وفي إعداد ردود الفعل الشعورية , وإضفاء المعاني والمضامين على المنبهات المختلفة .