إننا نتاج الأحداث الماضية واستمرار لها، إن كانت مادية أو فكرية. فنحن نرث خصائصنا وصفاتنا البيولوجية ممن سبقونا، ونرث غالبية عاداتنا وقيمنا وأفكارنا من مجتمعنا والماضي الفكري أو التاريخ هو المؤثر والموجه الأول لكافة أهدافنا ورغباتنا ومشاريعنا.
يا تري، هل يمكن أن يؤثر فينا المستقبل الذي لم يوجد بعد؟ في الواقع يستحيل أن يؤثر المستقبل ذاته فينا ولكن فكرتنا وتصورنا عن هذا الماضي هي التي تؤثر فينا ولها تأثير كبير وحاسم. فتأثير الأفكار علينا أكبر مما نتصور. إن قوة الأفكار لا تعرف بوضوح دائماً لأنها خفية ويصعب تقييمها، فقوة الأفكار تستطيع تغيير العالم، والاعتقاد أن قوة الأفكار هي نفسها فكرة قوية.
إن ما يعتقده الناس أنه سيحدث له تأثير حاسم علي ما سوف يحدث فعلاً، وقد أوضح أحد البنائين ذات يوم كيف أنه من المهم جداً أن يجعل الناس يعتقدون أنه سيبني فعلاً بناية، وآنذاك سوف يحصل علي الأموال من البنك وعلي رصيد من الممولين، وستشيّد البناية فعلاً. وهكذا، فصورة المستقبل التي يحملها الناس في عقولهم تلعب دوراً حاسماً في تقرير المستقبل فعلاً، وهناك الكثير من الأمثلة التي تؤيد ذلك، وقراءة الطالع يمكن أن تكون مثالاً.
إن الأفكار عن عالم المستقبل، التي يشار إليها أحياناً بتصورات المستقبل، قد تكون مهمة جداً، فالناس يرون أن أعمالهم مبنية علي أحداث ماضية ووقائع حالية، ولكن تصوراتهم للمستقبل ربما تلعب دوراً أكثر دقة وحسماً. إن المؤرخين مولعون بالقول إن دراسة الماضي يمكن أن تساعدنا في التنبؤ للمستقبل، ويوافق المستقبليون علي ذلك، ويبينون أن أفكارنا وتصوراتنا جميعها عن المستقبل قد جاءت بالضرورة من معرفة ودراسة الماضي، فما حدث في الماضي ويحدث الآن هو مصدر إرشادنا إلي ما قد يحدث في المستقبل.
ويمكن تعريف المستقبليات بأنها "التاريخ التطبيقي" فهي تنشط وتتقوي حيث يتوقف التاريخ، والمستقبليون لا يقنعون بمجرد فهم ما حدث في الماضي، فهم يريدون أن يستخدموا معرفتهم لتنمية فهم المستقبل، ويؤكدون أن المستقبل، لا الماضي، هو بؤرة الفعل الإنساني، وأن قيمة الماضي هي إمكان استخدامه لإنارة المستقبل.
إن أبسط التوقعات أو التصورات للمستقبل هي أنه سيبقي مثل الماضي، والافتراض التالي هو أن الأمور سوف تتغير بالطرق نفسها التي تغيرت بها في الماضي، أي أن التغيير الذي لوحظ في الماضي سوف يستمر في المستقبل علي نفس الشكل والوتيرة. فإذا عرف أن عدد سكان مدينة يتزايد بمعدل 2% سنوياً نفرض أنه سيستمر كذلك في المستقبل، أي نسقط طريقة تغير الأحداث التي حدثت في الماضي سوف تكون نفسها في المستقبل، ولقد ظهر أن هذه الطريقة غير دقيقة.
والمبدأ الثاني الذي يمكن أن ندعوه "مبدأ القياس"، وهو مبني علي ملاحظتنا أن نماذج معينة من الأحداث تتكرر أو تتشابه من وقت لآخر "الاستقراء والتعميم" أي ان هناك مؤشرات رئيسية تدل علي ما سيحصل مثل: حين حدوث انخفاض في مقياس الضغط الجوي نتنبأ أن عاصفة قادمة. ونحن جميعنا نستخدم القياس في تكهناتنا وتنبؤاتنا اليومية. وبعض المجتمعات وبخاصة في الشرق بالنموذج الدوراتي - أي تكرار دورات الحوادث أو التاريخ باستمرار.
إن معرفة الماضي لا تصبح آلياً معرفة للمستقبل، فهذه الثانية يجب أن ينشئها استخدام المعطيات المتوفرة عن الماضي كمادة خام لصياغة أفكار وتنبؤات عن المستقبل، ونحن نستخدم من أجل هذه الصياغة عددا من الأدوات العقلية وخبرتنا في استخدام تلك الأدوات وهي المفاهيم والنظريات. وتلعب رغباتنا دوراً رئيسياً في تشكيل أفكارنا عن المستقبل، فنحن نشعر بالعطش ونطور فكرة للحصول علي الماء، ونحس بالملل ونطور فكرة للقيام بنزهة، وكثيراً ما تخفض مرتبة التفكير بما يسرّنا إلي مرتبة أحلام اليقظة، ولكن أحلام اليقظة يمكن أن تساعدنا علي كشف ما نريد، فهي بذلك قد تلعب دوراً رئيسياً في مساعدتنا علي اتخاذ القرارات الصائبة، إذ باستكشاف الأفكار المرضية السارة وغير السارة قد ننمي مفهوماً عن الأهداف التي نريد تحقيقها.
المستقبل يُصنع
إن كل مفكر أو كل إنسان يستطيع السير بالتفكير، بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها الأحداث في الواقع، فانه يتخيل أو يتوقع المستقبل، وكذلك يستطيع السير إلي الماضي عن طريق عكسه الأحداث أو التحليل، فهو يستطيع أن يعرف "أي يتنبأ" بالأحداث أو نتائج تفاعلات بين أشياء أو بين بنيات، حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل، وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها، فهو يكمل ما ينقصه ويضع تصور لتلك الحوادث. فهو يقوم بوضع سيناريو لما يمكن أن يكون حدث، أو ما سوف يحدث، وتزداد دقة سيناريو الذي يضعه للمستقبل أو للماضي باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي لهذا المستقبل أو ذلك الماضي. والسيناريو شائع جداً، فهو ببساطة سلسلة من أحداث التي نتصورها تجري في المستقبل.
ويمتلئ تفكيرنا اليومي باقتحامات بسيطة لغامض عالم الغد أو الأسبوع التالي أو السنة الآتية، وهي جميعها سيناريوهات وإن كانت سيناريوهات بسيطة مختزلة. ويبدأ السيناريو حين نسأل مثلاً: "ماذا يحدث إذا وقع هذا أو ذاك؟"، أو "ماذا سيحدث إذا ذهبنا المساء إلي المسرح؟" ونحن ما أن نطرح السؤال نبدأ نتصور شتي نتائج الحدث. وفي عقولنا ربما نطور عدداً كبيراً من السيناريوهات في كل مرة نفكر في مشروع أو قضية. فالسيناريو أو التفكير المستقبلي يمكن أن يمنحنا فرصة النجاة من وضع سيء محتمل، أو تحقيق فرصة رائعة.
إن هذا التنبؤ أو السيناريو الذي تم تصوره يمكن أن يكون له تأثير كبير، فكل تنبؤ مستقبلي يكون له تأثيرات علي الحاضر، فهذا المستقبل المتصور أو المتخيل وإن كان أفكار يتفاعل مع الحاضر ويؤثر فيه، فالتفكير والتنبؤ المستقبلي تأثيراته أكبر مما نتصور.
فالفلسفات والعقائد والأديان كان تأثيرها الكبير نتيجة الرؤيا المستقبلية، وهي أفكار ومبادئ وتوجهات التي قامت ببنائها، وفرضها أو نقلها إلي عقول المتلقين. فهذه الأفكار راحت تعمل إما علي دفع الأحداث لتسير حسب السيناريو المتخيل وتساهم في تحقيقه، أو تعمل العكس، أو تدفع الأحداث لتسير في اتجاه آخر، نتيجة تأثيراتها علي توجهات الذين يتبنونها.
ونحن إذا نظرنا إلي غالبية هذه السيناريوهات التي وضعت للمستقبل المتخيل أو المتوقع نجد أن من قام ببنائها اعتمد علي ما اكتسبه من معارف ومعلومات من مجتمعه وعلي دوافعه ورغباته وآماله، وهذه كانت تأثراتها الأهم في تشكيل الأفكار والتخيلات المتوقعة للمستقبل.
إن كافة الأساطير والعقائد والفلسفات والأديان هي ناتج التصورات المستقبلية التي قامت بها عقول مميزة، وقام رفاقهم بتبنيها واعتمادها. إن غالبية المفكرين أو الكتاب "إن لم يكن كلهم" يميلون أو يسعون إلي فرض رؤياهم الخاصة عن المستقبل علي غيرهم، إما أن يقولوا أن المستقبل سوف يكون رائعاً، أو مريعاً، أو غير ذلك، ويقوما بحشد البراهين التي تدعم وجهة النظر التي تبنوها، ويضعوا السيناريو الذي يدعم رؤياهم، ويفرضونه علي المتلقين. فيقوم كل من هؤلاء بتبني ما يتفق مع ميوله ودوافعه وقيمه ويرفض ما لا يتفق معها، وغالباً يسعي لتحقيق السيناريو الذي اقتنع به وتبناه.
إن الناس قسمان، الأول، هم المحافظون وهم الذين يحافظون علي الموروث الفكري أي كان ويعطونه الأولوية في قراءة الحاضر والمستقبل، ويكون مفهومهم للحاضر والمستقبل منحازا للماضي.
والثاني، هم المجددون والمطورون وهم يسعون دائما للتغيير والتطور، ويكون مفهموهم للحاضر منحازا للمستقبل الذي يتصورونه، وحتي هذا المستقبل المتصور نفسه فانهم يغيرونه ويطورونه أحياناً. إن المستقبليين، وهم مقتنعون تماماً أن الأفكار تستطيع إزاحة الجبال، مهتمون جداً بالتنمية المنهجية للأفكار.
فتصورات المستقبل هي المخططات التي نستخدمها في بناء حياتنا، وقد تكون أهم من المواد التي نعمل بها " أجسامنا وأسرنا ومواردنا....." في تقرير نجاحنا وسعادتنا. فكما يمكن إشادة بناء إذا اعتقد الناس أنه سيشاد، فانه يمكن أيضاً إقامة عالم مستحب مرغوب فيه إذا أمكن تصوره بشكل صحيح. ويمكن للريادة المستقبلية أن تمنح الناس مجموعة مفيدة من المفاهيم يمكن أن تساعدهم في التعامل مع عالم سريع التغيّر، وتشمل هذه المفاهيم علي:
أ - المستقبل ليس ثابتاً فهو يشمل علي مجموعة منوعة من البدائل نستطيع منها اختيار ما نريد أن ندركه ونفهمه،
ب - التغيرات الصغيرة تصبح بمرور الوقت كبيرة،
ج - عالم المستقبل علي الأرجح مختلف جذرياً من نواحي عديدة عن عالم الحاضر،
د - الأساليب والطرق الناجحة في الماضي ربما لا تفيد في المستقبل بسبب الظروف المتغيرة. يمر العنصر البشري الآن بأسرع تغيير في تاريخه، إلا أن ثمة القليل من الاتفاق علي "أين يقود هذا التغيير" أو "ماذا قد يكون معناه ونتيجته النهائية".
ولكننا نعلم مؤكداً، فقط، أن إعصاراً من التغير يجتاح المؤسسات الإنسانية كافة، وليس ثمة من قوة معروفة تستطيع إيقاف التحول الشامل.
إن التغير الهائل في حياة الناس يبين سرعة هذا التحول. والكثير من المفكرين يعون وعياً تاماً أن الحياة الإنسانية تتغير الآن تغيراً جذرياً.