بعد نشر كتاب ألفين توفلر "صدمة المستقبل" عام 1970 دخلت ظواهر التغير الجذري وعي الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم
ولكن الآن يظهر أن التغير الحاصل أكبر وأسرع وأشمل مما تصوره توفلر، فالتغير يتوالد ويتكاثر بنفسه، فيتسابق أسرع وأسرع في حياتنا. واليوم يبدو التغير أنه الشيء الثابت الوحيد في حياتنا. وباختصار، فإن التغير عملية تتغذي علي نفسها، فكل تغير يقود إلي المزيد من التغيرات.
واليوم يعاني أناس كثيرون من صدمة المستقبل بسبب وتيرة التغير السريع، فهم انسحبوا من عالم بات غريباً عليهم ويستحيل فهمه "ماضيهم الموروث" وباتوا، إلي حد كبير، غير أكفاء للتعامل مع عالم اليوم، فإذا تسارعت وتيرة التغير "كما يبدو محتملاً جداً" فإن المزيد من الناس قد يصبح إلي حد ما غير كفؤ في التعامل مع الحياة.
لذلك علي الناس كي يعيشوا حياة ناجحة أن يتعلموا تقبّل حقيقة أن المجتمع يتغير، وأن الريادات المستقبلية وسائل فعل ذلك، فجعل الناس يألفون الأشياء التي قد يواجهونها مستقبلاً يساعد علي توفير التهيئة النفسية.
دور التكنولوجيا
ويعزي التغير الشامل والسريع الذي نتعرض له الآن إلي تقدم التكنولوجيا. وكثيراً ما يظن أن التكنولوجيا تتألف من أشياء مثل الآلات والكيماويات، ولكنها، وبالمعني الأوسع، تشمل كل المعرفة العلمية ومنها معلومات عن أي النباتات هي الأصلح للأكل، وأي الحشرات تحمل أمراضاً، وكذلك الكلمات والبني القواعدية التي نتواصل بها، ونماذج الواقع التي نفكر بها، و الترتيبات الاجتماعية التي وجدناها فعالة. وبالمعني الأوسع يمكن تعريف التكنولوجيا بأنها القدرة علي فعل الأشياء، ولا يستثني إلا المعرفة غير العلمية وقيمنا وتقييماتنا.
لقد كانت المهن التي يزاولها الإنسان بضع مهن، وكان يرثها من آبائه وأجداده، وصارت تتزايد خلال الزمن، وكان نشوء مهن جديدة قليل الحدوث، ويتم كل بضع عشرات من السنين أو حتى كل مئة سنة، فصار زمن نشوء المهن الجديد يتناقص وتزايد هذا التناقص، ونشأت وظائف متعددة والاختصاصات في كافة المجلات، والآن أصبحت سرعة نشوء المهن الحديثة يستلزم أن يقوم العامل أو المهني بتطور نفسه بواسطة التعلم والدورات كل بضع سنين ليواكب التغيرات السريعة الجارية إن تأثيرات التقنية أدت لتغير الكثير من المهن وخلقت مهن جدية لا حصر لها، فالنمو السريع في التغيرات التقنية يجعل المهن القديمة شيئاً من الماضي لأن هناك مهناً جديدة ستحل محلها، وفي المتوسط سيغير الناس مهنهم أو يطوروها كل عشرة أعوام، وهذا لم تستوعبه الكثيرون منا، فما زالوا يعتمدون المفاهيم القديمة عن المهن التي يعرفونها.
يبدو أن العالم الآن مندفع إلي حالة يمكن أن يوصف فيها بأنه محفوف بالمخاطر.
وكثيراً ما يوصف العالم الحالي بأنه خرج على السيطرة، أو بأنه حالة فوضي عالمية، وهذه الرؤى المفزعة تبدو منحازة، لأننا نشهد أيضاً زيادة مستمرة في التقدم التكنولوجي وفي مستوي التعليم علي نطاق العالم، وكذلك نشهد تقدم بمستوي دخل الفرد بشكل عام، وثقة محدودة بالهياكل الاجتماعية المحددة، وصعود العقلانية في تنظيم العمل والتمويل والسياسة والأخلاق والدين. وكان استخدام المنتجات التكنولوجية المختلفة علي مستوي العالم هو اتجاه لتشكل ظاهرة العولمة التي باتت تحيط بكل شيء.
إن الاتجاهات التي تعمل علي تغيير العالم الآن هي: المعارف والعلوم الجديدة، والتقنية الجديدة ونتائجهم. وإذا أردنا أن نستشف المستقبل يجب النظر إلي الدوافع والقوي والغرائز أو الخصائص الأساسية، فهي التي تقرر كيف سيكون المستقبل.
وأهم هذه القوي والدوافع هي المحافظة علي استمرار النوع وحمايته، وتحقيق أكبر كمية من الأحاسيس والمشاعر المرغوبة. ويشير كورزويل في كتابه "حين يتسامي البشر" إلي اقتراب حدوث انكسار تاريخي جذري بالغ العمق من شأنه تغيير كل ما يؤلف طبيعة الكائن البشري. فهو يتوقع نتيجة التطور السريع لقدرات الكومبيوتر والذكاء الصناعي المترافق مع التقدم هائل في مجال التحكم في المورثات، أن يؤثر ذلك علي عملية التطور البيولوجية، وأن يصبح التحكم في التطور البيولوجي بيد المعارف العلمية.
وكذلك كان فون نويمان قد تنبأ بأن الجنس البشري سوف يتطور بشكل سريع وغير متوقع نتيجة نمو التكنلوجيا وتطور الكومبيوتر. وقال ستيفن هوكنج ما معناه: أدي نقل المعلومات عن طريق غير بيولوجي إلي أن يسيطر الجنس البشري علي العالم، فقد حدث منذ حوالي سبعة آلاف سنة أن أنشأ الإنسان اللغة المكتوبة وهذا يعني انتقال المعلومات دون الاتصال المباشر أو الشفافية، فقد توضعت المعلومات خارج عقل الإنسان وصارت هذه المعلومات تسير عبر الزمن وتنتقل إلي الآخرين بدقة وبعد موت منتجها بزمن طويل.
لذلك نحن الآن علي مشارف عصر جديد سوف نتمكن فيه من زيادة تعقيد سجلنا الداخلي من دون أن نحتاج إلي انتظار عمليات التطور البيولوجي البطيئة والتي تحتاج إلي عشرات الآلاف من السنين. ومن المرجح أننا سنتمكن من إعادة تصميم الإنسان بالكامل في الأف العام القادمة. فالسوبرمان قادم ونحن أجداده إن لم نكن آباؤه، وهو علي الأغلب لن يكون سوبرمانا بيولوجيا فهو سوف يكون إلكتروني-بيولوجي.
الأوضاع عندنا
أما نحن، فإن الذين بيدهم الأمور لدينا غالبيتهم من محافظين، وهم من الكبار في السن، وهؤلاء لا يستطيعوا تقبل أو مسايرة التغيرات السريعة الحاصلة. لذلك لن تحدث تطورات جذرية مناسبة لما يجري من تغيرات حاصلة، ولكن في الأجيال الجديدة هناك أكثر من 35% علمانيين وغير محافظين وهؤلاء عندما يتسلموا الإدارة والقيادة فعندها سوف تبدأ تتسارع التغيرات لتواكب الأوضاع العالمية.
ففي المدى المنظور جيل أو أكثر لن تحدث تغيرات تلبي ما نحن بحاجة إليه من تطور لازم لكي نحقق التقدم الذي نأمل به. واذا حدث وظهرت تطورات الكترونية والكترونية - بيولوجية متسارعة إضافية، واذا حدث وفشلنا في مواكبتها والانخراط فيها، فأننا سرعان ما سوف نبدو وكأننا كائنات بيولوجية من عصور غابرة؛ كائنات ربما يكون جديرا ان توضع في المتاحف ليتفرج عليها الناس؛ كائنات قد تحظي، بعد تعرضها للإبادة علي نطاق واسع، بحماية مؤسسات خيرية مماثلة للمؤسسات التي تتخص في حماية الكائنات المعرضة للانقراض.
واذا كان المستقبل يُصنع، فان السؤال الذي يواجه الجميع هو: أهذا هو المستقبل الذي نسعي الي الوصول اليه؟
ولكن أترانا نصنع مستقبلا آخر؟
هل لدينا أية خطط؟
هل يمكن لقوة الفكر ان تسعفنا قبل فوات الأوان؟
- كاتب من سوريا متخصص في العلوم الانسانية.
المصادر
-المستقبلية "مقدمة في فن وعلم فهم وبناء عالم الغد" أدوارد كورنيش ترجمة محمود فلاحة دراسات فكرية وزارة الثقافة دمشق 1994
- كيف نتصور القرن المقبل ترجمة ماجدة أباظة مجلة الثقافة العالمية العدد 102-الاتجاهات التي تغير العالم الآن مارتن ج. سترون واون ترجمة حنان عواد مجلة الثقافة العالمية العدد 112
-مستقبل الإنسان بيير جرومبرغ ترجمة محمد الدنيا مجلة الثقافة العالمية العدد 126
- أربع اتجاهات عالمية نيقولاي ب. ترجمة د. أحمد فؤاد بلبع مجلة الثقافة العامية العدد 87
-العالم عام 2020 قوة- ثقافة-وازدهارا هامش ماكري ترجمة نعمان علي سليمان وزارة الثقافة دمشق 2000.