بسم الله الرحمن الرحيم
كانت المائدة صغيرة الحجم تتناسب مع حجم الشرفة المطلة على الشارع وكان المنظر من الأعلى رائعاً فهناك حياة وحركة في الشارع الذي يعج بالمارة والسيارات .
نظر الأب الذي جاوز الستين منذ أيام . إلى أسفل فوجد ولده يدخل إلى البناء . فسارع وفتح له الباب فهو يعاني من وحدة قاتلة ولعل أبنه يسليه . دخل الابن وسلم على والده بفتور وجلس معه إلى الطاولة على الشرفة . سأله الأب عن أحواله وعن سبب تأخره بزيارته فهو لم يره منذ أشهر .
فقال الولد بنفور : مشاغل الحياة
الأب : وكيف زوجتك وأطفالك
الابن : تمام
الأب : وكيف العمل
الابن : تمام
شعر الوالد بأن أبنه يختصر في أجوبته . فأصابته الكآبة وقال في نفسه ما به لعله يشعر بالضيق من شيء .
ثم أبتسم الوالد من جديد ونظر إلى أبنه بعطف وقال : بني أأنت متضايق من شيء ؟ .
فقال الابن : لا أ علم ولكني كلما أتيت إلى هنا تذكرت والدتي رحمها الله . وخلافك الدائم معها . وبصراحة لن أستطيع أن أغفر لك أنها لم ترى معك يوم فيه سلام وهدوء .
فقال الوالد : بني هذا رأيك وأنا لي رأي أخر . أنا أيضا أفنيت عمري في الخلاف معها وهذا شيء قد مضى وهي رحمها الله الآن بين يدي الحق .
فقال الابن : مضى بالنسبة لك وأنا لا أتي هنا إلا نزولاً عند رغبة إخوتي .
فقال له الأب : بني لما قلبك قاسي هكذا أنا ما ربيتك هكذا .
فقال الابن : أنت لم تتعب في تربيتي بل أمي من ربتني . وأنا من تعب على نفسه .
هنا ترقرقت دمعة في عيني الوالد وقال : بني سامحك الله إنما حزني ليس منك بل عليك فستشرب من نفس الكأس التي تسقيني منها الآن . ثم هب أنني كنت أظلم والدتك فهذا أمر بيني وبين زوجتي وبين الله سبحانه وليس لك أن تحاسبني .
الابن : أنت لم تفهمني يوما ولن تفهمني :
الأب : وماذا تريد مني أن أعتذر لك عما كان يحدث بيني وبين زوجتي رحمها الله . طيب يا بني أنا جداً أسف فالرفق بي وأنا قد تجاوزت الستين من السنون . وقد أفنيت عمري كاملا في تأمين الحياة الكريمة لك ولأخوتك ولأمكم . بني إن ما تفعله اليوم معي . سيفعل مثله وأضعاف مضاعفة ابنك معك في المستقبل . ولا أحب لك أن تتجرع مرارة المعاناة مع ولد عاق . هداك الله يا بني .
لم تعجب هذه الكلمات الابن وخرج من بيت أبيه يدمدم ويكلم نفسه مستهجنا من تصرفات أبيه . ! .
وبعد يومين توفي الأب وفي عينيه دمعة حارة . ولما رآه أولاده على هذه الحال . بكوا جميعاً وأقاموا مراسم الدفن والعزاء على والدهم المرحوم . ومضت الأيام تتسارع والسنين تطوي العمر كطي السجل للكتاب . إلى أن أصيب الولد العاق بالعجز التام وصار أولاده يتناوبون على السهر عليه والنظر في حاجاته إلى أن أتى يوم و قالوا له . إننا كنا فيما مضى من الأيام نعودك ونزورك ولكن لم يكن في قلبنا رحمة عليك ولا شفقة وإنما خفنا من ألسنة الناس أن تنالنا بسوء . وها قد طالت الأيام وأنت لم تمت فمتى ستريحنا منك ومن حاجاتك التي لا تنتهي . فنحن جميعا مشغولون وعندنا أعمال وبيوت نرعاها . هنا ترقرقت عينا الولد العاق وهو على فراش الموت ينازع الموت ويطلب البقاء ولا بقاء . فتذكر كلمات والده حين قال له ( أنه حزين لا منه بل عليه ) . ومع الأيام قاطعه جميع أبنائه إلا الابن الأوسط فيهم . فكان يرعاه ويعتني به وينظفه ويطعمه . وفي المساء شعر هذا المريض المسجى على الفراش العاق لوالده . أن أطرافه تتخدر وهناك ألم شديد وكأنها تتقطع وتنزع من مكانها . حاول الصراخ فلم يستطع . ثم تطور الأمر فبلغ الألم نصفه الأسفل بكامله . فعلم أنها سكرات الموت . فندم ندماً عظيما على ما فرط من بر الوالدين . وما فوت من الفرص . وعلى ما فاته من الخيرات وتمنى أن يعود به الزمن إلى الوراء فيصلح حاله . إلا أن الله يمهل ولا يهمل . شخص ببصره إلى سقف الغرفة ثم فاضت روحه ومات وحيداً يعتصر قلبه الندم والألم . وكان من عدالة الله أن عانى أولاده كلهم من عقوق أبنائهم إلا الابن الأوسط فكانت حياته سعيدة وكان أولاده مطيعين ومرضيين . والحمد لله رب العالمين .