مشت تتبختر بطولها الفارع وجسدها المنحوت الذي يبدو كأنما وضع في قالب صنعت فيه قديسات الجمال وحوريات الجنة وربات الحب ، وقد أسدلت شعرها الأسود على كتفيها وكحلت عينيها و ولونت وجنيتها و شفتيها ، وتدلى من أذنيها القرط الطويل ليلامس كتفيها السمراوين الباديين تحت شال قرمزي رمته بإهمال ليزيدها جمالاً و إثارة ..
صعدت الدرج بهدوء وتلكؤ كأنما تخشى أن يتكسر اللؤلؤ تحت حدة الكعب الطويل الذي تمتطيه .. مست الجرس بإصبعها الرفيع .. ليظهر لها من وراء الباب ذلك الشاب الأسمر بسيجاره الفاخر ، ينفث في وجهها دخانه لتتمكن بعد ذلك من رؤية ابتسامته الغامضة ، التي طالما كانت دائماً خطاف السنارة المرمية أمام حماقتها الأنثوية ..
بعد لحظات من وقوفهما على الباب ، انسلت بهدوء من تحت ذراعه الممتدة إلى عتبة الباب الذي وقف متكئاً عليه يبتسم متأملاً انبهارها به .. استدار ينظر إليها وهي تدخل مأخوذاً بسحرها الأسطوري و مترنحاً تحت هبات العطر الفرنسي التي لفحته ، ثملاً بموسيقى كعبها الرفيع التي أطربته كأنها "معزوفة القدر" يسمعها للمرة الأولى ..
أطبق الباب و دخل وراءها ..
سحبت الشال من تحت شعرها الذي تطاير يلمع كسطح بحيرة ماج تحت ضوء القمر في ظلمة الليل الحالك رمت الشال جانباً دون أن تكترث أين وقع ..
اتجهت إلى الأريكة التي أُعدّت أمامها طاولة تحمل بعض الشموع و بعض المأكولات والمشروبات البسيطة رمت بنفسها على الأريكة ثم استقامت جلستها بهدوء واضعة ساقاً فوق ساق مسندة ظهرها إلى الوراء وهي ترفع شعرها عن جبينها وتنظر إليه بطرف عينها وهو يقبل إلى الجلوس بجانبها على الأريكة .. جلس مبتسماً :
- أراك متعبة ..!
- الدرج العالي أنهكني ..
- ألاحظك أحد ؟
- اطمئن .
سحبت السيجار من بين أصابعه ، و أخذت منه نفساً عميقاً ثم نفثته في الهواء دون أن تنظر إلى وجهه .
- أنا لا آتيك إلا روحاً ، لا أبعاد لي ، لا لون ، لا رائحة ولا ملمس .. لذا لا يراني أحد ..
ثم استدارت ونظرت في عينيه نظرة لا تخلو من حزن و لوم :
- لكني أصبح بين يديك غير ذلك .
التفت عنها محاولاً الانشغال عن حديثها بما وضع على الطاولة :
- تشربين شيئاً ؟
- لا ، لا أريد .
- كيف كان أسبوعك ؟
- وكيف سيكون ، مثل بقية الأيام ، لولا وقوف بعض الكتب بجانبي لمتّ حزناً و كمدا ..
ابتسم :
- لا تقولي هذا ، ثم إن الكتب وحدها تكفي لغمر إنسان بسعادة لا تستطيع أفراح الدنيا منحها إليه .. أليس كذلك ؟
تنهدت :
- بلى إن لم يكن لديه همّ يقصم ظهره .
تظاهر بعدم سماع هذه الجملة الأخيرة .
- والجامعة ؟
- لا بأس .. لولا مساعدة نور قليلاً .. لقلتُ أني هجرتها تماماً ..
- بالمناسبة ، كيف حال نور ؟
- أظن أنها بخير ، لم أكلمها منذ أيام .
- هذه الفتاة لا تخشى شيئاً في الحياة ، تعيش وكأنه لا يوجد على ظهر البسيطة غيرها ، أما زالت تخرج بصحبة مازن ؟
تهز رأسها ساخرة مبتسمة ، وقد انحنت تنفض سيجارها من رماده ، وربما من رمادها أيضاً :
- مازن !! ؟ أي مازن ، هذا صار من التراث يا حبيبي .
- افترقا ؟
- نعم ، منذ أشهر ، وهي الآن بصحبة خالد رفيقه .
- ماذا ؟ " خالد ما غيره ؟!!"
- نعم ، هو بعينه .
- يا إلهي ، كم هي خبيثة هذه الفتاة ، ألا تخشى على سمعتها .
- لا ، لا أحد يستطيع أن يخمن ما تفعله ، فهي أمام الناس في النادي والجامعة ، وهؤلاء كلهم زملاؤها فحسب .
- وماذا ستفعل بعد ذلك ، ألن تتزوج فيما بعد ؟
قالها ، وأحس بخطأ كبير ارتكبه ، فقد وصل إلى حيث لا يريد أبداً أن يصل ، طالما كان هذا الحديث منبع خلاف دائم معها .
سادت لحظات من الصمت ، أطرقت فيها ولم تتكلم بشيء .
حاول أن يحتضنها مواسياً :
- لا تخشي شيئاً يا حبيبتي ، ستكون أمورنا على ما يرام .
نظرت في وجهه وقد ندّت أهدابها الدموع ، فلم تزدها إلا جمالاً وروعة :
- لا أدري لمَ أجد نفسي مضطرة إلى تصديقك ، ما زلنا على هذه الحال منذ أن جررتني إلى فراشك وحولتني بعدها إلى جارية لا تجرؤ إلا أن تطيع خوفاً من غضب سيدها وطرده . وما زلت تعدني باليوم الذي أكون فيه عروسك التي أحببتها وتمنيتها ، فهل سيأتي هذا اليوم ، أم انه يوم لا يوجد إلا في أحلامي الواهمة ، ومواعيدك الفائتة .
- أرجوك ، لا تبكي . أنا لا أحتمل دموعك هذه ، أعدك ، لن يكون إلا ما تريدين ، ولكن سبق وأخبرتك أنني لن أقدم على طلبك من والدك إلا بعد أن يكون لدي ما يكفي لزفك إلي كأميرة قادمة من الخيال .
- لا أريد أن أكون أميرة من الخيال ، أريد فقط أن أكون امرأة من الواقع ، زوجة وأماً و ربة بيت . أمام عيون الناس وعلى مرأى منهم ، دون أن أخشى أبي وأمي وإخوتي وأقاربي وأصدقائي والجيران والناس كلهم . ودون أن أخشى غدرك و خذلانك .
- هل تعتقدين بي هذا حقاً ؟
انهارت باكية بين ذراعيه ، فطوقها بهما محاولاً تهدئتها .. استمرت تبكي لدقائق عدة من غير توقف و كأنما اندفعت في ثناياها حقول من الألغام زرعها في داخلها حبها وطيبتها .. وغباؤها ..
لم يحاول منعها من الاستمرار في البكاء ، لم يقاطعها ، لم يكلمها ، ولم يتحرك من مكانه ، فقط تركها تبكي حتى تهدأ .. رفعت رأسها وسألته :
- هل سأكون زوجتك ؟
مرر كفيه على وجهها يمسح دموعها برفق ، ثبت عينيه في عينيها غائصاً في البديع الرباني الذي أضفاه البكاء على سحرها ، أمسك رأسها متأملاً ساهماً ، و حاول أن يقترب منها أكثر ولكنها أبعدته بيدها ، مكررة السؤال :
- هل سأكون زوجتك ؟
- بالتأكيد .
- متى ؟
- عندما أعود من سفرتي القادمة بعد شهرين ، ستكون زيارتي إليكم أول ما أفعله .
- عدني بذلك .
- أعدك .
تركته ونهضت ، اتجهت نحو المرآة ، نظفت بمنديل ما تركته آثار البكاء على وجهها ، سحبت حقيبتها وشالها ، و اتجهت إلى الباب :
- سأنتظر عودتك ووعودك .
وخرجت ..
*****
دارت نور حول خالد دورة كاملة تنظر في وجهه ، ثم رمت نفسها في حضنه ، وقالت :
- أريد أن أبقى بجانبك كل العمر .
ابتسم :
- ابقي إذن ، سأكون سعيداً بذلك .
- إلى أين ستأخذني في عطلة الأسبوع القادم ؟
- ما رأيك أن نخرج في نزهة رياضية ممتعة ، لتسلق الجبال مثلاً .
ابتعدت عنه :
- أتمزح ؟ وماذا نفعل في الجبال ، أرغب بالذهاب إلى البحر ، تحجز قارباً جميلاً وفخماً ونخرج في نزهة بحرية وحدنا دون أن يرانا أحد .
- وماذا ستقولين لأهلك ؟
- وما شأنك أنت ؟ سأقول أني في رحلة مع الجامعة .
- ألا تخافين أن يكتشفوا الأمر ؟
- عندما لا تخشى مما تفعل ، لن يلحظك أحد ، ثق بذلك .
- تعجبني جرأتك ..
ابتسم بخبث وسحبها من يدها إلى غرفة أخرى وأطبق خلفه الباب .
*****
مضت ثلاثة أشهر .. لم يأت خلالها حبيبها المنتظر ، لم يظهر ، لم يتصل ، ولم يرسل خبراً ..
طرقت نور باب غرفتها ودخلت .. نظرت إليها وهي متكئة في السرير كحمامة وديعة كسرت جناحيها ريح عاتية ورمت بها على حافة مستنقع قذر .
- مازلت تحتجزين نفسك داخل هذه الغرفة ، ستموتين قهراً إن بقيت على هذه الحال .
- لأمت إذن ، وهل تظنين أني يمكن أن أعيش بعد كل هذا ؟
- أي هذا ؟ وهل كنت تعتقدين أنه سيتزوجك بعد أن كنت خليلته لأشهر .
انتفضت جالسة ، وقالت بغصة حارقة :
- خليلته ؟! لقد أحببته بصدق ، ووعدني أن أكون زوجته .
- زوجته ؟! تمزحين معي ، أم تضحكين على نفسك ؟ وهل سبق أن تزوج رجل في هذا الشرق امرأة أحبته حتى الفراش ؟ جاهلة أنت أم غبية ؟
- لكنه يعرف تماماً أن أحداً غيره لم يتمكن من مس شعرة مني .
- لا يا عزيزتي ، لا يعرف .. وإن عرف فلن يستطيع أن يتناسى ما وطدّه المجتمع عليه ، وما ربته له أمه ، وأنشأه فيه أبوه .
- لا لا ، إنه ليس كذلك .
- ماذا يعني هذا ؟ ستبقين في فراشك على هذه الحال حتى يعود ؟ فإن لم يعد ؟
- سأنتظر الموت إذن ، إذ أن مثيلاتي يلوح لهن الموت عادة إن لم يكن حزناً فقتلاً ..
ربما لم تدرِ هي ولا نور التي بجانبها أن الموت كان قابعاً في الغرفة يسمع ويرى ، قائما على بعد خطوات ينتظر .
فوالدتها التي كانت قلقة جداً على ما آلت إليه حال ابنتها ، لم تتمكن من كبح نفسها عن الوقوف وراء الباب لتسترق حديثاً ظنت أنه قد يطمئنها .. ولكن كان العكس ..
بدأت تلطم وجهها وتبكي وتدعو على نفسها وعلى وليدتها بكل ما خطر في بالها من أوبئة وكوارث ، مما جعل نور تنسل هاربة في هذه اللحظات ، خصوصاً بعد وصول أبيها في هذا الوقت الحرج ..
لم تمض ثوان حتى عرف الأب القصة كلها ، وتحول من رجل هادئ متزن ، إلى بحر غاضب هائج يريد أن يبتلع كل ما يراه في طريقه ..
دقائق قليلة ، وانتهى كل شيء ..
*****
تمايلت نور تمشي في النادي الجديد كأنما على رأسها الطير .. استوقفها شاب وسيم جميل الوجه ، طويل القامة ، تبدو عليه ملامح الوقار :
- اسمي عزّت هشام . مهندس . أعمل في شركات والدي سامر هشام للمقاولات ، لا بد أنك سمعت بها .
ابتسمت ، تخفي دهشتها ، وإعجابها به :
- نعم ، بالتأكيد . أهلا بك ، أي خدمة ؟
- لا أبداً ، لكنك مازلت تلفتين انتباهي منذ أيام ، عفواً هل يمكن أن نجلس لنتحدث بهدوء أكثر .
تظاهرت بالارتباك والخجل :
- حسناً ، لا بأس ، لكن لوقت قصير لو سمحت ، كي لا يرانا احد !!
- تفضلي .
مشت أمامه إلى أقرب طاولة ، سحب لها الكرسي لتجلس وجلس أمامها :
- أنا رجل عملي وجدي ، لا أحب المزاح واللعب ، هل أنت مرتبطة ؟
- لا أبداً .
- هل لديك مانع أن أتقدم لخطبتك من أهلك ؟
نظرت في وجهه مستغربة ، أطرقت قليلاً ، ثم أجابته بلطف :
- لا أبداً ، لا مانع .
ابتسم :
- هذا جميل اكتبي لي رقم هاتفك وعنوانك ، سآتيكم في أقرب وقت .. بإمكانك إخبار أهلك بذلك .
نهض ، سلم عليها وغادر ..
جلست تفكر ، كأنها لا تفهم ما يحدث ، لم تتوقع من قبل أن يتقدم لخطبتها شاب بهذه الوسامة وبتلك الصفات ، ولكن لم لا - قالت في نفسها – أنا أيضاً جميلة ، ومتعلمة ، وابنة ناس أكابر ، ولا ينقصني شيء ، " إنه رائع " لن أتركه يفلت ، ثم قامت لا تسعها الدنيا من الفرح .
أخبرت أهلها ، وأعدت نفسها لاستقبال فتى الأحلام رامية وراءها كل ماضيها الحافل بالمغامرات .. استقبلته بحفاوة ، أعجبته ، أعجبها ، وتمت الخطوبة بمباركة العائلتين ..
مضت شهور الخطبة جميلة رائعة كما لم تتصورها نور ، واقترب موعد الزفاف ، وبدأت التحضيرات ، بيت الأحلام جاهز لا ينقصه شيء ، صالة الأفراح من أفخم ما يكون ، فستان الزفاف ، المجوهرات ، جهاز العروس ، سيارة هدية لها ، ومئات الهدايا الأخرى التي أغرقتها في النعيم ..
أخيراً .. غداً زفافي سأكون امرأة من المجتمع المخملي ، يحسدني جميع الناس على زوجي الذي يراني ملكة عثر عليها في فوضى الجاريات ، سأكون كما حرصت دائماً .. أسعد امرأة في العالم .. ولكن ...
نسيت أمرا مهماً .. يا إلهي ( الشهادة ) ، حسن أني تذكرت ..
قامت مسرعة ، ارتدت ثيابها ، أخرجت من درجها رزمة من المال ، ونزلت من البيت ، امتطت سيارتها و توجهت فوراً إلى العيادة النسائية أسفل الجبل ، عيادة بسيطة لا تعدو عن كونها غرفة واحدة بأربعة جداران ، تستفيق بداخلها عاهرات العالم على عذرية بريئة لم تدركها حتى نظرات الرجال الخبيثة ..
يا للكون الأحمق ! في غرفة حقيرة نائية عن صخب المدينة وضجة معتركاتها الساخطة على قليلات الشرف و أهلهن عديمي الناموس ، يوزع الشرف في شهادات حسن سلوك يُدفع ثمنها مبلغاً من المال ودقائق قليلة من الوقت ..
خرجت نور .. كيوم ولدتها أمها .. عذراء طاهرة نقية .. استقلت سيارتها بهدوء تام و كأن شيئاً لم يحدث ، وعادت تتابع تحضيرات الزفاف ..
صبيحة اليوم التالي قدمت النساء منذ الصباح يساعدنها في التحضيرات ، بينهن جارتها أخت صديقتها الذبيحة بسكين الشرف ..
قدم بشكل مفاجئ عزت هشام ذلك الصباح يريدها في أمر بخصوص الحفل .. فرأى جارتها تلك ..
- أليست هذه أخت تلك الفتاة التي قتلها أبوها لدناسة فعلها ؟
- بلى ، ولكن لم تسأل ؟
- اعذريني يا حبيبتي ، ولكني أفضل ألا تكون قريبة منك ، و مجرد وجودها في بيتك يسيء إلى سمعتك .
- معك حق ، لا تهتم سأحاول صرفها إن استطعت ، أقدر غيرتك علي .
قبل جبينها وانصرف ، وهي ترمقه بنظرة دهاء لا يتمكن أذكى الرجال من كشف خباياها ..