بسم اله الرحمن الرحيم
رجع الرجل إلى بيته مرهقا وهو يحمل في يديه بضعة أشياء من حاجيات المنزل . و كانت خطواته بطيئة ويمشي بهدوء وتثاقل وملل . وكلما مشى بضع خطوات وقف ليستريح قليلا . ولم يكن التوقف كثيراً يزعجه . فهو الآن يمر في أحد الأزقة القديمة لمدينة دمشق العريقة . وكم كان يغرق في تأمل تفاصيل فن العمارة القديمة وروعتها . وكانت الأفكار تخرجه من واقعه المؤلم في رحلة عبر الزمن فيضيع في أدق التفاصيل الصغيرة ويغيب عن الوعي لدقائق معدودة .
كان هناك غلام في الثالثة عشرة من عمره أو أكبر قليلاً يقف على باب بيت . قريب من مكان استراحة صاحبنا .
كان الغلام يطرق باب بيت عربي قديم . فأطلت عليه امرأة في العقد الثالث من العمر . من أحد النوافذ القديمة المرتفعة . وكانت تتوشح بالستارة البيضاء الموضوعة على النافذة .
قالت : و بحدة . ماذا تريد
أجابها الغلام بصوته الذي بدأ يخشوشن معلنا عن دخوله عالم الكبار : أنزلي
قالت : لن أنزل ( مالي فاضيه ) إنني أشرب القهوة مع أم زكي .
فألح عليها بالنزول مرتين أو ثلاثة . وكم كانت عنيدة . ولم تفهم من إلحاحه أنه يريد أن يقول لها شيء في سرها .
فقالت بنبرة فيها حنق وغضب : ( شو بدك خلصني )
وعندها وصل الولد إلى قرار المراهقين الذي فيه تسرع وانتقام فوري . وقال ما عنده :
قال لها : الألف ليرة التي تعرفين ( طارت )
شهقت وقالت : ( كيف طارت ) .
قال : لا أعلم البابا قال لي أن أنزل إلى السوق وأشتري بها لحم .
فقالت : ولماذا اللحم ؟
فقال الغلام : لا أعلم
أعادت نفس السؤال مرة أخرى بصيغة الغاضب المستنكر . وأجابها ابنها برفع حاجبيه وكتفيه وإسدال شفته السفلى . كل هذا وصاحبنا يراقب الموقف دون أن يجرؤ أن يأتي بأي حركة أو همسة . فهو يريد أن يعرف تفاصيل أكثر عن موضوع الألف ليرة . ولقد كادت تخرج من فمه أصوات السعال لكنه كتمها لكيلا يغير مجرى الأحداث بينهما .
قالت لأبنها : بلهجة الاستهزاء والاستنكار . ( وهو شو عم يساوي لساه متمطرق ؟ .. يعني مضطجع )
قال الغلام : وكأنه يشتكي والده و بحرد . نعم مازال كذلك . وهو يدخن أيضاً.
قالت : ( أصلاً مو شاطر إلا بها لشغله ) . ( تقصد التدخين )
قال الغلام . بنفور . طيب الآن ماذا أفعل أنا .
قالت : ( أرجع إلى البيت وقل له اللحام مسكر دكانه ) .
قال لها : لن يصدقني وقد سبقني بالقول قبل أن اخرج من البيت . ( إذا ما لقيت أبو محمد فاتح . روح لعند . برو اللحام . وألو أبي يسلم عليك بدي شوية شقف ) .
تأففت وغضبت ثم أدخلت رأسها وكانت تتحدث مع جارتها بصوت عالي .
لدرجة أن صاحبنا سمعها تقول لجارتها : ( رح يموتني هالزلمة . عطال بطال . على دخان وأكل وش ...) ( لا تفهمونا غلط ) ( وشرب )
فردت جارتها بصوت أعلى من صوتها وكانت كأن رجلاً يتحدث : ( كلهم هيك شو مفكرة بس يلي عندك هيك . طيب هلأ شو بدك تساوي إذا صرفها للألف ليرة مصيبة والله ) .
ردت المرأة الغاضبة صاحبة الألف ليرة : رجال أخر زمن .
كانت تقول هذه الجملة وهي تخرج رأسها من النافذة . ووقعت عيناها في عيني صاحبنا فارتبك وكاد أن يقع من طوله ( لشعوره وكأنه : كان في بيتها و يتجسس عليها ) ونسي أنه في الشارع .
فقالت لأبنها : وهي تنظر إلى الرجل بقرف وقد جمدت عيناها وهي تحدق فيه بحنق وبصوت عالي ( روح عالبيت ألو لأبوك هلأ جايي أمي . وتابعت وهي لم ترخي نظرها عن الرجل وكأنها تخاطبه . يبعتلو أتلو انشالله . الله يخلصني من هيك رجال . العمى أف . ) وصفقت الشباك بيديها وكاد أن يقلع من مكانه بسبب الضربة العنيفة .
هنا ارتعدت مفاصل صاحبنا وتذكر زوجته وخلافاته معها وقال في نفسه . ( أحسن شي روح عالبيت وخليها تكسر البيت فوق راسي بس ما تكون مثل هال نسوان يا ساتر والله شي يخوف . ) .
مضى الولد يتمتم في سره بصوت خفيف في اتجاه ما . ومضى صاحبنا في اتجاه أخر مسرعاً نحو بيته نحو ( مصيره هو الأخر ) . ودخلت المرأة إلى غرفة جارتها . ورحل الثلاثة في اتجاهات مختلفة . وكم كانت الصور تتراءى لصاحبنا فيضحك مرة ويبكي أخرى .
. قصة واقعية كأنها لقطة كاميرا .
في 20/3/2012 م الساعة الثامنة مساءً .