البطل والجن ...
كان يتأمل جدران غرفته . وكانت بالية عششت فيها العفونة . وباتت كلوحة تشكيلية فاشلة . فوضى الألوان تكسو الجدران . وقد غلب عليها اللون الأخضر المشرب بحمرة قاتمة . وربما كان هنا وهناك بقع صفراء ورمادية وسوداء .
نظر نحو النافذة المتهالكة شبابيكها . ورمق بنظرة خفيفة شجرة ترتفع من وسط الدار . تعلو برأسها لتطل على مشارف غرفته .
كانت رائحة الطعام المنبعثة من مطبخ الجيران تذوب فؤاده . وتدعو أمعائه لمعركة الجوع الخاسرة . وكم كان يحلم أن يطرق أحدهم باب غرفته . ليجد صبيا من أبناء الجيران يحمل في يده طبقا مما يعدون من الطعام الشهي لكن هيهات إنها أحلام اليقظة . وكانت الروائح وحدها كفيلة بعذابه وخاصة أنه قد أفتتح جارهم أبو محمد محلا لبيع للحوم المشوية . وأبو محمد ينثر بالدهن على النار كل دقيقتين ليثير شهية الجيران . وكم كان يؤلمه أنه لا يملك ما يكفي ليأكل مرة واحدة من عند جاره اللحام .
صراع كبير كان يدور في رأسه . هل أسافر معهم . ؟ . أم أظل في هذا الوضع المزري الذي أعيشه والذي لا يسر عدوا ولا صديق . ؟ .
وكيف أترك هذه الغرفة وقد عانيت الأمرين حتى رضي أبو محمد أن يؤجرني إياها بمبلغ بسيط بالنسبة له . لكنه مضني بالنسبة لي .
وماذا أفعل بأوراقي وأدواتي . وكتبي . وهي كل ما أملك . ولمن أعهد بها . ولست ائتمن أحد بالحفاظ عليها دون العبث بها . والإطلاع على ما فيها من أشياء وخواطر خاصة جداً .
جن جنونه وقفز يبعثر أوراق الغرفة ويحطم كل ما يقع في طريقه وهو يصرخ من الألم في نوبة غضب عارم . كان ألم الفقر والجوع شديدا عليه . وكان صريع ألم الإحباط الذي طرحه حبيس غرفته لا يستطيع مبارحتها ولا يحب العيش فيها . قفز إلى النافذة وجذب جذع الشجرة القريب منها كأنه شعر فتاة بيده . وصار يمزقه . ثم أراد الخروج من الغرفة لكنه لم يستطع فصفع الباب صفعة كادت تقلعه من مساميره المستمسكة بالجدار كمخالب نمر متوثب .
واستمرت نوبة الجنون إلى أن تعب واستلقى على الأرض في زاوية ما من الغرفة ونام منهكا .
في أسفل المنزل الذي تقع غرفة صاحبنا في عليته . كان الهدوء مخيما على الجميع . وكانوا يتمتمون بآيات من القرآن وأسفار من الإنجيل . لصرف هذا الجن من هذه الغرفة . ثم وصل أبو محمد صاحب البيت فوجد جميع ساكنيه فزعين . قال ما بالكم . قالوا له لقد عاد الجن يبعثر محتويات الغرفة في العلية .
أخذ معه عصا غليظا وصعد برفقة شابين مفتولي العضلات في تحد صارخ للرجولة . وللجن أيضا . وصل باب الغرفة . وهو يتصنع الرجولة وعدم الخوف . وكان ينظر في وجهي صاحبيه ليرى معالم الخوف عندهما . فيطمئن أنه ليس وحده الخائف . ثم رفع شاربيه وأبتلع ريقه من حلقه الجاف ومد رقبته ولوى رأسه وعدل كتفيه . ثم دفع باب الغرفة بعصاه الطويلة بهدوء وصمت وحذر شديد . وهو مستعد للركض عند الحاجة . ولما تسنى له ولرفيقيه أن ينظرا وسط الغرفة . كانت فارغة .
ليس فيها أحد .
هنا استفاق صاحبنا ونظر إلى أبو محمد الفضولي وإلى الشابين معه . وصار يتساءل ماذا يريدون . وأنتظر ليرى ما سيحدث . ولكنهم كانوا ينظرون في أرجاء الغرفة دون أن يجرؤ أحدهم على الدنو منها ولو خطوة واحدة .
كان صاحبنا يريد أن يتكلم لكنه لجم في مكانه ولم يقدر على النطق بحرف .
وكان أبو محمد يريد التراجع وإغلاق الباب لكن ركبتيه لم تعد تسعفانه فيما يريد .
وكان الشابان يمسكا بقميص أبو محمد الذي يكاد يتمزق من مخالبهما . وهما يتطاولان ليريا ماذا يوجد هناك .
وكان الصمت يطبق على سكان البيت تحت . وهو يشنفون أذانهم ويرفعون أبصارهم إلى العلية ربما يرون شيئا ما .
فجأة انفجرت لمبة كانت تتدلى أمام غرفة الشاب بسبب الماء الذي يتقاطر عليها من السطح . فوقع أبو محمد على الأرض وأخذ يزحف ويصرخ مرتجفا . وأطلق الشابان ساقيهما للريح . وبدأ الصراخ من أسفل البيت من ساكنيه .
كانت عينا أبو محمد ( القبضاي ) جاحظتان وكأنهما ستخرجان من مكانهما .
بعد عدة أيام انتشرت في الحي قصة الغرفة المسكونة بالجن . وكيف تصارع معهم أبو محمد . وطرح أحدهم أرضا . إلا أن أحد الجن بادره بلكمة جحظت عيناه على إثرها . ولم تعودا إلى مكانهما .
( هي هكذا الحياة : قصص فوضوية ليس لها بداية ولا وسط ولا خاتمة ولا عنوان )
دمشق محمد عصام الحلواني في يوم الجمعة الموافق
24/5/2013