حين يتجاور الألم و الحب في قلب واحد .. يبدأ فورا صراع بقاء عنيف و تماما كما في شريعة الغاب الغلبة دائما للأقوى ..
- هاتي البشارة يا نهال .. سيصل عمر صباح الغد .
نطقتها سلمى و كأنها تطلق زغرودة ..
تجمدت يد نهال على جرة الماء التي تسقي منها أصص الفل في شرفتها و أحست كأن قلبها سكت عن النبض ابتعد صوت سلمى و توقف ذهن نهال عند العبارة الأهم ..
سيصل عمر صباح الغد ..
عمر ؟!
سرعان ما تذكر قلبها وظيفته و تسارع وجيبه و اندفعت دماء حارة تغسل شرايينها .
دارت حول نفسها في حيرة تريد أن تشغل يديها بأي عمل .. اندفعت نحو مرآتها لتنظر في وجهها و كأنها ستراه للمرة الأولى ..
فتحت خزانة ثيابها و غردت في يدها أساورها الذهبية في بحث أخرق بين الأثواب ..
ما يزال صوت سلمى يردد في أذنها : سيرجع عمر غدا يا نهال ..
عمر ؟
أخرجت من الدرج صورة عمر و نظرت مليا إلى ابتسامته العذبة و هو يضع في يدها خاتم الخطوبة .. عادت تبحث في الدرج عن العلبة المخملية الحمراء التي أودعتها قبل سنوات خمس خاتم الخطوبة الذهبي جربت الخاتم في إصبعها .. قد نحلت أصابعها .. و لكن لا بأس ..
غدا صباحا ؟ كم يبدو الغد بعيدا .. و كم يبدو الليل طويلا ..
خلف النافذة الصغيرة جلست تنتظر موت الليل و ولادة الصباح كان الليل طويلا دائما .. لتسع سنوات هي زمن الغياب كان الليل يعذبها بامتداده اللانهائي كان طويلا دائما .. إلى حد سمح لها بحياكة العشرات من القطع الصوفية ، و تطريز جهاز عروس بمئات القطع رسمت فيه بإبرتها ورودا زرقاء .. و عصافير زرقاء ..
على ستائر لم يكتب لها أبد أن تغطي زجاج نافذة ، و مفارش لم يقدر لها أن تفرد أبدا على سرير ..
أدارت نظرها في البيت الكبير الفارغ إلا منها .. بعد رحيل أبيها و زواج أختها الصغرى لم يبق فيه سواها
و ها هو يعود الآن سيعود..
و ستعود إلى الشرفة تلك الأريكة العجوز لتشهد شرب قهوتهما الصباحية .. و تتمطى الفلة الكسول متفتحة ببطء حين تقلق إغماضتها ضحكة عمر المجلجلة المدوية ..
ستقف النجمة على رؤوس أصابعها لتختلس النظر إلى باحة البيت ساعة تضع رأسها على كتفه مساء . و حين يأتي الشتاء ستئن في المدفأة جمرات تذوب شيئا فشيئا و يئز من حرارتها إبريق الشاي الصغير . سيعود الدفء إلى هذا البيت و يتغلغل فيه كسحابة من عطر .. و ستمسك مرة أخرى بيدها المنشفة و تراقبه بصمت و شغف و هو يحلق ذقنه منشغلا عنها بدندنة لحن قديم .. قديم ..
قدم طفولتهما التي تقاسماها مع عرائس الزيتون و الزعتر .. قدم الحب الحاني الهادئ الذي تواطآ على إخفائه منذ صعق اليتم المبكر عمر و جاء إلى بيت عمه ليعيش في كنف عمه و جدته العجوز .. لحن قديم.. قدم حكايا الجدة ، الثرة الحنان ، التي كانت تفرشها حضنا يغمرهما و يغطيهما ..
كان حبهما شيئا طبيعيا لا تعقيد فيه و لا هموم .
هي ابنة عمه .. وهو أحق الناس بها .. شيء يشبه قوانين الطبيعة .. حتمي مثلها ، ثابت مثلها ، حقيقي مثلها و حين وضع في إصبعها ذلك الخاتم ، و تمتم الشيخ بصوت خفيض كلمات ربط بها بينهما ؛ لم يشعر أيا منهما بأي تغيير ، لم يكن للانفعالات الصارخة مكان ..
هل تشعر قطرة الماء بالدهشة حين تجد نفسها في حضن النهر ؟
أو تستغرب أوراق الشجر ارتماءها على صدر الأرض ؟
تلك كانت الحياة ببداهتها .. بمساراتها الأزلية العصية على التفسير و على التغيير في آن واحد . حين قرر أن يسافر ليحقق طموحا أرقه طويلا ، لم تكن قد عرفت بعد معنى أن يغيب عنها تحدث إليها لساعات عن أحلامه بالثراء ، ببيت جميل في العاصمة وسيارة ومال يريحهما من التعب المضني. تلك الأحلام كانت تسكنه .. و تحزنها
لم تستطع فهمها .. كل ما فهمته أنها كانت تبعده عنها ..
لم تستطع أن تفهم ما يشده إلى الرحيل بهذه الضراوة ..
و لم تستطع أن تقف في وجه رغبته ..
لكن سفره هزها كزلزال ..
لأيام و أسابيع و شهور عاشت في عالم لا تراه ..
عالم غريب لا تعرفه .. لا ملامح له .. قاس .. متجهم ، شديد البرودة ..
رسائله تصلها تباعا ..
تعيش من خلالها ألمها و ألمه ، غربتها وغربته ، وحدتها و وحدته ، شوقها و شوقه ..
و مرور الأيام ثقيل ... ثقل الهواء الذي يدخل رئتيها فلا يزيدها إلا اختناقا ..
مرت الأيام .. وراحت رسائله تتباعد شيئا فشيئا .. و حين تأتيها كلماته بعد انتظار طويل .. تصل مبتسرة .. سريعة .. غامضة .. و معها مبلغ من المال لا يلبث أن يتحول إلى سوار جديد تضيفه إلى أساورها ..
مع هذا ... كانت أخباره تصلها .. كانت تتسقطها و تجمعها تحاول أن تصنع منها قصة ، أن تجد فيها مبررا تبرر به لنفسها قبل الناس جميعا بقاءه بعيدا بعد مرور السنوات و تحقق الحلم ..
اشترى بيتاً..وسيارة.. والمكتب الصغير تحول إلى شركة كبيرة.. ومع ذلك.. لم يعد بحثت له طويلاً عن عذر لتسامحه و عن سبب يخلع من قلبها ذلك الشعور المقيت بالمهانة و الألم .. ولكن دون جدوى.
سنوات تسع عجاف .. تكدس الحزن خلالها في الزوايا ، و البرد سكن الأعصاب و العظام .. سنوات كثيرة متشابهة ..لا تغيير فيها .. سوى في كبر مساحة الألم في قلبها .. و ازدياد عدد الأساور الذهبية في يديها .. رنين الذهب ارتبط دون إرادتها بغيابه الطويل.. صار رنينه ناقوسا .. ينعى إليها وحدتها .. و حرقتها .. و جرح كبريائها ..
صوته صدى نميمة العجائز.. ونظرات الشفقة في عيون الرجال.. والخشية من الحسد في عيون النساء.
تسع سنوات عجاف .. خمسون رسالة .. و أربعون سوارا .. و أطنان من الحزن ..
تلك كانت حصيلة ذلك الحب الكبير .. حصيلة العمر ..
في الصباح التالي، وحين فتحت باب بيتها.. وجدت عمر يستند إلى الجدار مبتسما أوجعت قلبها ألفة شعرتها نحو ملامحه التي كادت تبهت لكثرة ما استرجعتها الذاكرة .
رأت في عينيه تعبا .. و مرحاً.. و ابتسامة رجل واثق .. متأكد من ترحيب المكان و أهله ..
هم أن يقول شيئا .. لكن الحروف ماتت قبل ولادتها.
قتلها صمت غريب هبط كستار ثقيل لا قبل لهما بإزاحته .. لم يكسر حدة الصمت إلا صوت أساور نهال ..
تنزلق من معصميها و تستقر مع خاتم الخطوبة في كفه .. نظر في عينيها للحظة .. ففهم كل شيء، و استدار راجعا من حيث جاء ..
أغلقت وراءه الباب بهدوء .. و اتجهت إلى شرفتها .. حملت الجرة .. يداها خفيفتان .. رشيقتان .. صامتتان و مضت تسقي باهتمام أزهار الفل في شرفتها ..