برد شديد.. قارص .. قاسٍ.. يهاجم بلا هوادة..
كطفل صغير يشدك، يربت على ساقك، يرفع صوته وعينيه و يثغو ليلفت نظرك إليه... قطرات الماء التي تنقر نافذتي.. وجدران بيتي.. وأطلال الياسمينة في شرفتي....
بدت لي ليلا.. مثل متسول يلاحقك يريد أن يشرح لك حاله.. وأنت منشغل عنه... النار التي تزمجر في مدفأتي تحاول إقناع البرد بالبقاء على عتبة الباب ...وطيات الستائر.
وهذا العصفور الصغير القابع في قفصه يتأملني.. تقول لي عيناه شيئا لا وقت لدي لأسمعه...
ولكن..لا فائدة... البرد شديد.
لا تستطيع أن تتجاهله وتتابع حياتك دون أن تلتفت إليه... برد شديد لا حيلة لك معه إلا أن تفتح له ذراعيك.. وصدرك.. وقلبك... وتستسلم لمجونه ونزواته.
وراء زجاج باب الشرفة وقفت لا أرى شيئا.. البرد يخترق الزجاج ويصل إلى عظامي... والظلام خارج البيت بساط أسود طويل بلا نهاية..
صوت البرد يعلو على نبضات قلبي ويأخذني بعيدا.... لماذا أعود إلى الطفولة دائماُ
رغم أنها لم تكن تلك الطفولة الهانئة الخالية؟
لماذا وقد كانت مبتسرة مقيدة سرقت منها قبل الأوان؟
ربما لأنني كنت فيها طفلة... ولأن من أحبهم.. كانوا إما أطفالا مثلي.. أو شبابا وصبايا.. مثلي.. حتى العجائز.. كانوا مثلي.. تسكنهم طفولة.
أو ربما.. لأن عيوني، عيون الطفلة، كانت مثلي.. تنتقي وتصطفي.. وترى الجمال في غير مواقعه..... وإلا.. لماذا أهرب من شوارع صقيلة يجعلها المطر مرايا سوداء إلى حارات ضيقة متشابكة تملؤها حفر الطين....
ومن بيت حجري دافئ يذكرني بتلك الأبيات التي حفظناها في المدرسة:
"سقف بيتي حديد.. ركن بيتي حجر.. فاعصفي يا رياح.. وانتحب يا شجر"
إلى بيت صغير في حارة "سد" تقاتل مدفأة الحطب فيه البرد كـ "دون كيشوت" مجنون يقاتل طواحين الهواء... ولماذا أترك ترف ثلاجتي ولا يغريني في هذا الجوع، وهو جوع وحشي بالمناسبة، إلا عروسة زيت وزعتر بخبز تنور تتنهد على ظهر مدفأة؟
وعطري الذي كان يملأ الغرفة قبل قليل ويجعل صغيري كلما اقترب من طاولتي يهوي علي ليعانقني لماذا أجد الآن.. أن رائحة صابون مغسلة صغيرة كانت تقف تحت السماء يملأ حواسي كلها. ورغم بساطة الرائحة وتوغلها في القدم.. تتفوق على عطري الباريسي؟
للروائح عندي دائما أهمية خاصة... وروائح الشتاء هي الأجمل.
رائحة زخة المطر الأولى المختصرة كمزحة.. تختلف عن رائحة حبال المطر المسترسلة كنجوى.. تختلف عن رائحة ملحمة مطر تذكر طين البيوت بالطوفان العظيم.
رائحة احتراق الحطب مع رائحة ماء السماء تترك فسحة لرائحة السمراء المدللة تتمتم في الدِّلال فوق الجمر قبل أن تنداح في فناجين الخزف.. و الليلك المتذمر من طول وقوفه في كأس ماء شفاف.. "يكبو" بين الحين والحين غافيا ليصحو على منافسة رائحة ماء الزهر في كأس الماء المجاور.. ويصبح الفضاء أوركسترا تعزف العطور...
رائحة الدفء الممتزج بالبساطة.. رائحة الهدوء.. رائحة حكايا الجدة.. رائحة الساعات والأيام الطويلة.. الهانئة.. مع رائحة البذر الأسود المنذور لسهرة الفيلم العربي القديم يوم الجمعة يدوخ في المقلاة وتطقطق بعض حباته قافزة في الهواء... ويغلبني النعاس قبل انتهاء الفيلم وأضع رأسي في حضن جدتي وأغفو.
بكسل فتحت الباب..وخرجت إلى الشرفة إما أن البرد قد انسحب.. أو أنني ببساطة.. لم أعد أشعر به.
مثلي .. فوجئ الفجر المتسلل على مهل... حين رأى الشام نائمة تحت الثلج.. كعروس غفت على الكرسي بثوبها الأبيض الطويل... ورمت طرحتها المطرزة بدموع من ماس.. فسقطت على رؤوس الأشجار و أسطحة البيوت...
بهدوء، تركتُ العاشقين، الشام والشتاء، وحدهما.. وتسللت على مهل متوجهة إلى سريري. لديهما حديث طويل.. ولدي موعد مع أحلام جميلة ما زالت الشام فيها صبية عاشقة
وما زال الشتاء أميراً يفي بمواعيده.