قلت في نفسي بلهجة لا تخلو من حزم: "يا بنت.." -هناك نوع من رفع الكلفة بيني وبيني- كفاك جلوساً إلى الجهاز الذي سلبك كل حياتك.. اخرجي للهواء والشمس" ..وفعلت.
أنا أحيانا أطيعني... لماذا؟ لأنني أحترمني، ولأنني تعودت أن أدللني وأنفذ أوامري.
خرجت برفقتي فقط، فأنا أستمتع بهذه الرفقة.. سألتني: "إلى أين العزم إن شاء الله؟" أجبتني: "كالمعتاد، إلى الشام أنا أكره المواصلات، لا لشيء، لكنني أكره الوقت الذي يفصلني عن المكان الذي أقصد.
أكره المصاعد والمهابط، و أكره انتظار سيارات الأجرة، وأكره طول الطريق .. أنا ماهرة في اختراع أشياء أكرهها.. بلا طول سيرة، وصلنا "أنا وأنا"
توجهنا أولا إلى تمثال صلاح الدين، التمثال الذي يصوره راكبا حصانه في معركة ولا أعنف، التمثال رائع، لا غبار عليه إلا الغبار الذي يغطيه.
لا بأس، يحتاج الأمر إلى بعض الشاعرية، لذا قررنا... أنا وأنا ...أن هذا الغبار هو غبار التاريخ الماجد !
"يا بعد عيني يا صلاح الدين"... أردت أن أناجيه ، لكن المكان مزدحم بالمارة، ناجيته بصمت... كدت أخبره بما يجري في المكان الذي قضى عمره في تحريره، فخجلت، وسكت. دخلت في الشارع الذي وراء القلعة.
احتاج الأمر مني كثيرا من الخيال لأغير أشكال المارة، وألبسهم من الثياب ما يناسب الزمن الذي ألعب فيه لعبتي، استنفذت كميات هائلة من الشراويل، والصدريات، واستعنت بكل خناجر التاريخ وسيوفه لكي أقلدها للشوام الجدعان، ورسمت بأقلام الفحم الأسود شنبات مع صقور تقف عليها، ولا شنبات طوني حنا بزمانه.
سرت بهدوء متخيل، وتلاشت السيارات وكل أشكال الحضارة السخيفة بسحر ساحر غريب الأطوار، وحلت محلها بغال لها صبر عجائبي على تحمل ما تحمله من أثقال، وعلى صراخ الباعة الجوالين على بضائعهم. وحل باعة الخضار والعرق سوس والتمر هندي والثلج الممزوج بعصير البرتقال محل باعة البلاستيك المعاد تصنيعه من ألعاب وأطباق وحتى أحذية "أنتو أكبر قدر.
هنا شعرت بالحر الشديد، مجنون من يخرج الآن في رابعة النهار، فالساعة حوالي الرابعة عصراً كان لا بد من تصرف سريع.
أطفأت الشمس بكبسة زر، لكنني عدت وأشعلتها من جديد، خفت من الصراصير.. "كله إلا الصراصير". لذلك، أتيت بالشمس كما يؤتى ببرتقالة ناضجة اتكأت على شجرة صغيرة في بيت عربي قديم. لففتها جيدا بغيوم ملونة بعضها أسود وبعضها بنفسجي وبعضها أصفر.. "أنا حرة في ألوان غيماتي".
فأرسلت ضوءاً دون حرارة وانصاعت لنوبات مزاجي المتقلب الغريب ولكن الحرارة الأرضية، مع برودة طبقات الجو العليا، مع لا أدري ماذا من أمور تتعلق بالفيزياء والكيمياء والهندسة الفراغية حولت غيومي السوداء والمختلفة الألوان إلى مطر، وأي مطر.. سيول.. سيول من المطر...
هذا ما لم أعمل حسابه. لكن لا بأس، أنا أحب المطر كثيراً. ما همي إن ابتلت ثيابي؟ سأخترع معطفا واقيا على كل حال كما اخترعت كل شيء آخر.
ركض الأطفال بقباقيبهم الخشبية الملونة على أرض الشارع الحجرية، واختفوا خلف أبواب صغيرة تفضي إلى فضاءات أوسع وبدأت تذوب آثار ألعابهم التي رسموها بحجارة كلسية على أرض الحارات..
وكدت أتعثر بقطعة الحجر الصغيرة التي كانت تتقاذفها أرجلهم ليقفزوا فوق مربعات مرسومة يحتل من كان بارعا في تجاوزها «باريس» بحالها، بقضها وقضيضها..
يبدو أن هذه اللعبة كانت بقية ما بقي من الاحتلال الفرنسي اللطيف لبلادي، إضافة إلى آثار طلقات البنادق على جدران الجامع الأموي وغيره من أسواق وأحياء دمشق.
الشمس صدقت اللعبة، وراحت تختفي وراء الأفق وتترك المجال لهواء بارد يتخلل العظام جاء دون دعوة. ومزاريب المطر توقّّع بصوتها على أسطحة البيوت القديمة، وتنسى أن تأتي بكاظم الساهر ليرقص تحتها..
ودخان المدافئ الأسود راح يتصاعد كأشباح نحيلة تحمل معها رائحة الحطب المبلل المحترق. وداخل البيوت، تتجمع الأسر حول مدا فيء صغيرة يئن فيها الخشب وتشوى فوقها الكستناء وتشكلت برك من طين وماء في الحارات الضيقة المتعرجة..برك تحولت إلى بحيرات تحتاج إلى سباحة ماهرة، و"محسوبتكم" تغرق في شبر ماء. بل يمكنني أن أغرق تيمماً..
ووجدت أنني قد اشتقت لكم كثيراً فقررت العودة إلى معقلي فوراً وأن أمر على بيت أخي "الساكن قصادي وبحبه"..لآخذ كم «بوسة» من حمزة الصغير قبل أن ينام.
وتركنا «أنا وأنا» مدينتي الحبيبة تنام فوق فراش من تاريخ مضى ونسي أن يأخذني معه وعدت إلى بيتي، ناسية الشام في شتاء لم يعد يأتي هو إليها واشتاقت هي إليه.
سأفتح التلفزيون بعد قليل..
لأرى كيف ستعلق وكالات الأنباء على اختفاء الشمس في عز الظهر..
وهطول الأمطار الصيفية.. وضياع قطعة حجر صغيرة سرقت في غفلة أبناء المدينة.. وبكاء تمثال صلاح الدين على مشارف قلعة دمشق.