الطريق ضيق, لا تكاد تجد القدم دربها على الحصى التي تغرز أنيابها فيها حتى تلوّح أيدي الشجيرات المتوزعة على يمينه ويساره بسيوفها, تقص الرقاب التي حرقتها الشمس, وتفقئ العيون التي أكلها السواد,
وتسلب الوجوه ملامحها. الشمس تلفح الوجوه, وتحرق العيون, تبخر الدم في العروق, وتتركها انهار تشققت تربتها على جانبيها, وبرزت صخورها مُضمرة الملامح.
هذا الطريق هو دائما طريق البائعين المتجولين الوحيد إلى بر الأمان, إلى منزل يجرهم إلى منازل أخرى. يكثر عددهم في الصيف, وكم من عابر لصحارى الحياة الواسعة يتوهم بسراب واحاتها! يكثر عددهم في الشتاء تحت الأمطار, ويشعرون بصداقتهم مع الشتاء, ولكن لا يلبث أن يشعرون بفرق آخر.
فصل العطاء على الأرض يتحول إلى فيضان يملأ أجسادهم بالمياه الصفراء, ويزيد القشعريرة في أجسادهم أيضا يكثر عددهم في الربيع, وتتحول أنوفهم إلى مغارات تتكاثر فيها حبات الطلع وتلد النفس المختنق بالحساسية. يكثرون في الخريف أيضا, ويضيعون بين أقدام أوراق الأشجار المتساقطة على الطرق المحفورة وفي حاويات القمامة المنخورة.
على مدار السنة يكثرون, ومع تعدد الأشهر يتعددون. يوشمون أجسادهم بإبر الفصول التي تدق الوشم على أجسادهم وفي أجسادهم كما تدق إبرة الحدادة الأحذية المتهرئة لتخترق أقدام منتعليها, بل حتى قلوبهم. ودائما يجمعهم وقت واحد. يظهرون وقت الظهيرة التي تختصر حياتهم بساعات النهار الحارق ساعات هي حياتهم. تحرقهم أشعة الشمس تارة, ونار الخوف من صواعق الشتاء تارة, وعيون الناس التي تحملق إليهم تارات أخرى.
سمع صوت ذاك البائع المتهدل في مشيته حاملا ثقل سنين عمره والأحمال على ظهره قبل كلبه. شم رائحته, ولم يميز بين رائحة عرقه ورائحة دمه التي شمها أيضا قبل كلبه. حبات العرق المتسلسل على وجهه , تسقط إلى عينيه ثم تنهمر منهما, وقد تحسبها دموعاً لولا أن الرجال لا يبكون! ولكنه سرعان ما يمسحها قبل أن تصل إلى فمه ويبصقها من فمه بسبب ملوحتها لان رضابه الجاف غير كاف للبصاق. يحاول أن يفصل ثيابه المبللة عن جسده فإذ بها ملتصقة عليه كبقايا ثياب على جسد التهمته النار.
"امسكه" همس لكلبه الجالس بجانب قدميه تحت فيء تلك الشجرة عندما رأى ذاك الشيء المترنح قادم صوبه. انطلق الكلب صوبه تتداخل أرجله بيديه للانقضاض على الفريسة. ولكنه توقف على مسافة من البائع, يتعالى نباحه أكثر فأكثر, ويسيل من فمه لعاب على عدد قطرات العرق المنهمرة على وجه الرجل الذي تصلب في مكانه. نظر حوله ليلتقط حجرا ما, ولكن أسفاه! اختفى الحصى تحت قدميه وتحولت الأرض إلى غبار, وحتى لو وجد حجرا هنا أو هناك ما كان ليتمكن من الإمساك به, يداه مشلولتان من ثقل ما يحمل. حاول أن يستجمع صوته من جديد كي يصرخ على الكلب, اختفى صوته في متاهات ندائه على بضاعته.
لم تتمكن الشمس بحرارتها الحارقة من أن تذيب تلك الغشاوة الكثيفة على عينيه, ولا من صهر سلاسل وأقفاص الحديد التي يكبل جسده بها, ولكن هذه المرة, كما كل مرة, وبقدرة قادر يتمكن من رؤية ما يشبه الإنسان جالسا على مسافة منه تحت شجرة أمام منزل كبير تظهر عليه ملامح الفخامة, وبقدرة القادر نفسه ينطلق صوته مخاطبا من رآه بدون أن يصيح لبضاعته.
دائما تعلق كلماته في حباله الصوتية في شبه استسلام لذاك الحيوان أمامه. لا تجد لها منفذا إلا أثناء الصراخ على بضاعته الذي لا يسمعه احد, أو في محاولاته لكسب رضا شار يريد أن يشتري بدون دفع المال. "هل هذا الكلب يعض؟" نادى البائع مخاطبا صاحب الكلب بصوت يشبه المواء أكثر منه النداء.
"لا. الكلاب النابحة لا تعض. تعال أيها الغبي". تخرسم الكلب أمام أمر سيده, ومشى أمام الرجل وبدا على شكل ظله الصغير, رأسه مطروق في الأرض تماما كالبائع, ولكن ليس بسبب ثقل وليس لأنه كهل كما هو حال الرجل, يمشي خطوتين ثم ينظر إلى الرجل ورأسه صوب الأرض في رغبة للانقضاض عليه لإرضاء صاحبه, ولكنه يواصل المشي أمامه من جديد.
" ألا ترغب في شراء شيء؟ كل شيء رخيص" . " انتم دائما تقولون أن كل شيء رخيص وأنكم انتم الخاسرون دائما! ولا نراكم إلا وانتم تجعلوننا ندفع الدبل. لا. لا أريد شيئا ولكن _ دعني أرى". بدأ يفتح الأكياس, يرمي هذا فوق ذاك, ويلقي هذا هناك فوق الأكياس التي تنحدر عن بعضها مسافة متر من الكيس الكبير مجبرا الرجل على ترك الكرسي الذي جلس على طرفه كي يلتقط الكيس قبل أن يلتقطه الكلب.
الكلب يرامق الرجل بعيون محمرة وبنظرات ثابتة. وصاحبه لا ينظر في وجه الرجل, بل يبحلق في الأكياس بشعور غريب, برغبة ما لانتزاعها منه. وبغريزة ما ربما هي الخوف, الخوف من أفعى تداعب فأرا ولكنها قد تغرز أنيابها في جسده في أية لحظة, خوف الصغير من تسلط الكبير, عرف البائع أن ذاك الرجل لن يشتري منه شيئا. بدأ يلملم أكياسه بحركة تغلغل الخوف إليها حتى استقر في صميم داخله, خوف من يد قد تسلخ يده وتقول له "اترك هذه الأكياس. هي لي وليست لك". " هل كل تلك المنازل يحرسها كلاب؟" , "اجل. في كل منزل كلب يحرسه", "لا بأس سأجرب منزلا آخر.
لا اعلم لماذا يربي الناس الكلاب! الدنيا أمان" . وأدرك بقدرة قادر أن الرجل ليس لديه رغبة بالكلام. حمل الكيس الكبير على ظهره بصمت تام, ثم امسك بيده كيس آخر بنفس الحجم تقريبا وقال للرجل وهو ينظر إلى الطريق أمامه "السلام عليكم", رد الرجل ببرود يكاد يجمد البائع في مكانه " وعليكم السلام".
ابتعد البائع بضع خطوات, بدا شكله من الوراء مثيرا ليس للكلب للانقضاض على ظهره, بل لصاحبه الذي رامق كلبه بنظرة لم يفهمها كلبه. وبعد لحظات تعالى صوته من جديد, مبحوحا, متقطعا يصرخ على بضاعته إلى أن ذاب في نباح كلب آخر.